مقدمة
هذا كتابٌ حول طريقة عمل العلم على الحقيقة، إنّها محاولةٌ لفهمٍ أفضلَ لنظام معرفي يُنظر إليه في المجتمعات الغربية على أنّه الـحَكَم المطلق على الحقيقة، ولقد كتبناه معتقدين أنّ طبيعة العلم يُساء فهمها من قِبل العلماء والعامة معًا.
وفقًا للمعرفة الشائعة فإنّ العلم عملية منطقية صارمة، تكون فيها الموضوعيةُ قِوام موقف العالم تجاه عمله. وتُفحص المزاعم العلمية بصرامة من خلال مراجعة الأقران وإعادة إنتاج التجارب، فيكونُ بذلك نظامٌ للتصحيح الذاتي يتخلّص من جميع أنواع الخطأ بشكل سريع وحتميّ.
بدأنا الشك في هذه الرؤية من خلال رصد بعض القضايا الحديثة التي اكتُشف فيها أنّ العلماء كانوا ينشرون نتائج مزيفة. في البداية قمنا بفحص حوادث الغش العلميّ في إطار نفسية الفرد: كيف يمكن لباحثٍ ملتزم بالكشف عن الحقيقة خيانة المبدأ الأساسيّ لمهنته من خلال نشره لبياناتٍ مغلوطة؟ وقد كنا في ذلك متأثرين بالمتحدثين باسم الأيديولوجيا العلمية الشائعة والتي تلح بثبات على الطبيعة الفردية للجريمة. حيث كانوا يقولون أنّ تزوير البيانات ما هو إلا نتاج عقلٍ مختل، وقد تم الكشف عنه –كما هو محتوم من خلال آليات الرقابة الذاتيّة في العلم–، وبالتّالي لا يوجد ما يستدعي القلق بشأنه.
مع ازدياد تسرب أخبار الغش العلمي إلى الرّأي العام، وبلوغ المسامع همسات حول حالات أخرى تم التخلّص منها بهدوء أكثر، فإنّا تساءلنا هل كان الغشّ خصيصة ثانوية في مشهد العلم؟ وقد لاحظنا –بعد فحص دقيق– أنّ هذه الحالات قد فشلت في التوافق مع النموذج الشائع المفترض عن العلم. لقد تحدّى المزوّرون المنطق وإعادة إنتاج التجارب ومراجعة الأقران والموضوعيّة، تحدوا كلّ ذلك ولفترات زمنية ممتدة في الغالب، كيف تمكّنوا من الوصول إلى هذا الحدّ لهذه الفترة الزمنيّة الطويلة؟ وإذا كان الغشّ محكوم عليه بالفشل بشكل مؤكّد كما يدّعي الناطقون الرّسميون، فلِمَ مارسه أشخاص كثيرون؟
تمثّل كلّ حالة غشّ درسناها انعكاسا رائعا للسلوك البشري، وغالبا للمأساة الإنسانية، غير أنّنا سرعان ما أدركنا أنّ هناك قضيّة أعم وأكثر جدّية تكمن تحت هذه الحوادث الفردية، لقد كان الغشّ ظاهرة عجزت الأيديولوجيا العلمية الشائعة عن تقديم تبرير مناسب لها؛ وبالتالي فإنّ الأيديولوجيا نفسها ينبغي أن تكون معيبة أو ناقصة بشكل جدي.
بما أنّ الغشّ قد أدَّى بنا إلى التشكيك في الأيديولوجيا الشائعة، فإنّا نعتقد أنّه كذلك قد يقدم منظورا بديلا ومفيدا للنّظر إلى العلم، إنَّ الأيديولوجيا الشائعة –حسب رأينا– مستمدّة من أعمال المؤرّخين والفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين لم ينظروا إلى العلم لذاته وإنّما من خلال تخصّصاتهم العلمية. ولكن على غرار المسافرين إلى أراض أجنبية، فإنّ هؤلاء المراقبين المحترفين للعلم غالبا ما يتعلمون عن أنفسهم أكثر مما يتعلمون عن البلد التي زاروها.
يقدم الغشّ –حسب اعتقادنا– طريقا آخر لفهم العلم، فقد استمدَّ الطبّ –قبل كل شيء– معارف مفيدة حول العمل العاديّ للجسم من خلال دراسة علَلِه، فبدراسة العلم من خلال عِلَلِه –بدلا من دراسته من خلال معيار مسبق– تسْهُل رؤية العملية كما هي، باعتبارها متميزة عن الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها. إنّ توفر حالات الغشّ ليس دليلًا دامغًا حول مدى جودة عمل أنظمة الفحص من جهة الممارسة فحسب، ولكن حول الطبيعة الأساسية للعلم كذلك، حول الأسلوب العلمي، حول علاقة الواقع بالنظرية، وحول دوافع ومواقف العلماء. يقدم هذا الكتاب تحليلا لما يمكن أن نراه في العلم من منظور الاحتيال العلمي.
استنتاجنا باختصار هو أنّ للعلم شبها قليلا بالصورة الشائعة عنه. إذ نعتقد أنّ البنية المنطقية المميزة للمعرفة العلمية لا تكشف شيئا عن كيفية بناء تلك البنية أو عن عقلية البناة. ففي خضم اكتساب معارف جديدة، لا يتم إرشاد العلماء من قبل المنطق والموضوعية فحسب، ولكن أيضا من قبل عوامل لاعقلانية على غرار الخطابة، والدعاية، والتحيز الشخصي. لا يعتمد العلماء على التفكير العقلاني فقط، كما أنهم لا يحتكرونه. فينبغي ألا نعتبر العلماء حراس العقلانية في المجتمع، وإنما فقط أحد الأشكال الرئيسية لتعبيراته الثقافية.
لقد نشأت أجزاء من هذا الكتاب من مقالات كتبها كلٌّ منّا لمجلة (Science) –مجلة علمية أسبوعية– ومجلة (New Scientist) بلندن. لقد قدمت لنا تعليقات أولئك الذين قرؤوا المسودة عونا كبيرا: كارين أرمز ، وستيفن ج. براش، وتوماس كالان، وجوناثان كول، وروبرت سي. إيكارت، وكولن نورمان، وليزلي روبرتس. كما نتقدم بالشكر لمن قدم لنا المساعدة والنصيحة، ومن أولئك: فيليب بوفي، وروزماري تشالك، ويوجين سيتادينو، وليندا جارمون، وجيري جالسون، ونوريس هيذرنجتون، وأي. سي هيجنز، وجيرالد هولتون، وجيمس جنسن، وبيتر ماتسون، ودينيس رولينز، وبويس رينزبارجار، وهال سدر، ومارسيلو تروزي.