عندما يسمع الناس اليوم مصطلح (ثورة المعلومات) فإن أول ما ينصرف إليه ذهنهم هو رقاقات السيليكون وشفرات البرامج والهواتف المحمولة والحواسيب الخارقة، ونادرا ما يُظَنُّ أن الكلام يدور حول الكائنات الصغيرة وحيدة الخلية أو حول نشأة الحياة الحيوانية. أثناء كتابة هذه الكلمات في صيف عام 2012 كنتُ واقفا عند نهاية الشارع الضيق الذي يعود بناؤه للقرون الوسطى في كمبردج بإنجلترا، حيث بدأتْ -منذ أكثر من نصف قرن- ثورةٌ معلوماتية أثرت بشكل كبير على علم الأحياء. أطلق شرارة هذه الثورة عالمان غير متَوقعان، لكنّ تاريخ العلم خلد ذكرهما، إنهما (فرانسيس كريك Francis Crick) و(جيمس واطسون James Watson). منذ أن كنتُ طالبًا في مرحلة الدكتوراه بجامعة كمبردج -في أواخر الثمانينيات- وأنا منبهر بالطريقة التي غير بها اكتشافهما هذا فهمنا لطبيعة الحياة، حيث سَبَرَ واطسون وكريك أغوارَ البنية الكيميائية للـ(دنا DNA) وخواصه الحاملة للمعلومات خلال خمسينيات القرن العشرين، ليدركَ علماءُ الأحياء أنّ الكائنات الحية شديدة الشبه بالأجهزة عالية التقنية، وتعتمد على المعلومات الرقمية؛ تلك المعلومات التي -في إطار الحديث عن الحياة- تخزن على هيئة شفرة كيميائية مكونة من أربعة حروف، مُتضَمّنة في الشكل الملتف لحلزون الدنا DNA المضاعف.
ونظرا لأهمية المعلومات للكائنات الحية، فقد أصبح من الواضح الآن أن العديد من الثورات المعلوماتية المميزة حدثت في تاريخ الحياة، وهي ليست ثورات من اكتشاف الإنسان أو اختراعه، لكنها ثورات تتضمن تزايدا مثيرا في المعلومات الموجودة في العالم الحي نفسه. يعلم العلماء اليوم أن بناء كائن حي يتطلب المعلومات، وأن بناء أشكال جديدة للحياة من أشكال سابقة أبسط يتطلب كمية ضخمة من المعلومات الجديدة. لذا، فمتى يشهد السجل الأحفوري نشوء أشكال جديدة من الحياة الحيوانية -التي تظهر على شكل نبضة من الابتكار البيولوجي-، سيشهد أيضا زيادة مهمة في المحتوى المعلوماتي للمحيط الحيوي.
في عام 2009 كتبت كتابا أسميته (التوقيع في الخلية Signature in the Cell)، تناولت فيه الثورة المعلوماتية الأولى في تاريخ الحياة؛ تلك التي حدثت مع نشوء الحياة الأولى على الأرض. وقد وصفت فيه كيف أن الاكتشافات البيولوجية الجزيئية -خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين- أثبتت احتواء الدنا DNA على معلومات رقمية، تحملها الوُحيْدات الكيميائية الأربعة -تعرف بالأسس النكليوتيدية-، التي تعمل كالحروف في اللغة المكتوبة أو كالرموز في الشفرة الحاسوبية. كما أظهرت البيولوجيا الجزيئية أن الخلايا توظف نظاما معقدا لمعالجة الشفرات، والوصول إلى المعلومات المخزنة على الدنا DNA، والتعبير عنها باستخدامها في بناء البروتينات والآلات البروتينية التي تحتاجها للبقاء على قيد الحياة. يجب على العلماء الذين يحاولون شرح أصل الحياة أن يفسروا نشأة الجزيئات الغنية بالمعلومات، ونظام معالجة المعلومات في الخلية.
أنتج نمط المعلومات الموجود في الخلايا الحية -تلك المعلومات المحددة، والتي فيها تسلسل الحروف تؤثر في وظيفة التسلسل ككل- معضلة مستعصية، إذ لا تُظهِر العمليات الفيزيائية أو الكيميائية غير الموجهة القدرة على إنتاج معلومات محددة منطلقة من أسلاف فيزيائية أو كيميائية بحتة. لهذا السبب فشلت نظريات التطور الكيميائي في حل معضلة أصل الحياة الأولى، وهو ادعاء لا يجادل في صحته اليوم سوى قلة من منظري التطور.
في كتابي (التوقيع في الخلية) لم أذكر فقط الأزمة المعروفة جيدا في دراسات أصل الحياة، ولكني أيضا قدمت الحجة المؤيدة لنظرية التصميم الذكي. فرغم أننا لا نعلم سببا ماديًّا يولد شفرة رقمية وظيفية من مواد فيزيائية وكيميائية مجردة، إلا أننا نعلم -بناءً على خبرتنا المتكررة والمنتظمة- أنه يوجد نمط وحيد له قوة مثبتة في إنتاج هذا النمط من المعلومات، ألا وهو الذكاء أو العقل. وكما لاحظ خبير نظرية المعلومات هنري كاستلر فإن "خلق المعلومات مرتبط عادة بالفعل الواعي".(1) أينما وجدنا معلومات وظيفية؛ سواء كانت مدرجة ضمن إشارات راديوية، أو محفورة في شاهد حجري، أو مودعة في قرص ممغنط، أو أنتجها خبير في أصل الحياة أثناء محاولته إنتاج جزيء ذاتي التضاعف، وتتبعنا تلك المعلومات إلى مصدرها الأول، سنصل بكل تأكيد إلى عقل، وليس إلى عملية مادية بحتة. لهذا السبب، فإن اكتشاف المعلومات الرقمية في أحد أبسط الخلايا الحية يشير إلى الفعل السابق لـمصممٍ ذكيٍّ عمِلَ على إنشاء هذه الحياة أولَ مرة.
أثبت كتابي أنه مثير للجدل، لكن بطريقة غير متوقعة، فرغم أني صرحت بوضوح أنني كنت أكتب حول نشوء الحياة الأولى، وحول نظريات التطور الكيميائي التي تحاول تفسيرها من مواد كيميائية أولية بسيطة، إلا أن العديد من النقاد استجابوا له وكأنني كتبت في موضوع مختلف بالكلية. لقد حاول قلة فقط دحض أطروحة كتابي الحقيقية القائلة بأن التصميم الذكي يقدم التفسير الأمثل لنشوء المعلومات الضرورية لإنتاج الحياة الأولى، ماعدا ذلك انتقد الغالبية الكتاب، كما لو أنه قدم نقدا للنظريات الداروينية الجديدة المعيارية حول التطور البيولوجي، وهي النظريات التي تحاول تفسير نشوء الأشكال الجديدة من الحياة انطلاقا من أشكال حية أبسط سبقتها. لذا، ولدحض ادعاءاتي بعدم وجود عمليات تطورية كيميائية ثبتت قدرتها على تفسير النشوء الأوّلي للمعلومات في الدنا DNA -أو الرنا RNA- الضروري لإنتاج الحياة من مواد كيميائية أبسط موجودة سلفا، استشهد العديد من النقاد بالعمليات القائمة في الكائنات الحية الموجودة، خصوصا (الانتقاء الطبيعي) الذي يعمل على الطفرات العشوائية في المقاطع الموجودة سلفا من الدنا DNA الغني بالمعلومات. أي استشهد هؤلاء النقاد بعمليات غير موجهة تعمل على جزيئات دنا DNA غنية بالمعلومات موجودة سلفا، لدحض حجة تقول بفشل العمليات المادية غير الموجهة في إنتاج المعلومات الموجودة في الدنا DNA لأول مرة.(2)
فمثلا، حاول عالم البيولوجيا التطورية البارز (فرانسيسكو أيالا Francisco Ayala) دحض كتابي بقوله إن الدليل من الدنا DNA البشري والرئيسيات الأدنى يثبت ظهور جينومات هذه الكائنات الحية نتيجة لعملية غير موجهة وغير معتمدة على التصميم الذكي. بالرغم من أن كتابي لا يتناول مسألة تطور البشر أو يحاول تفسير أصل الجينوم البشري، وبالرغم من أن العملية التي ألمح إليها أيالا تفترض سلفا -بشكل واضح- وجودًا مسبقًا لجينوم غني بالمعلومات في بعض الرئيسيات السفلى المفترضة.(3)
استشهدت مناقشات أخرى حول الكتاب بالجهاز المناعي عند الثدييات كمثال على قدرة الانتقاء الطبيعي والطفرات على توليد معلومات بيولوجية جديدة. بالرغم من أن الجهاز المناعي عند الثدييات قادر فقط على القيام بتلك الأعاجيب لأن الثدييات المستضيفة له بالفعل حية، مع ذلك يعتمد الجهاز المناعي عند الثدييات على شكلٍ مبرمج سلفًا بالتفصيل من حيث القدرة التكيفية الغنية بالمعلومات الجينية، وهي التي ظهرت بعد زمن طويل من نشوء الحياة الأولى. وقف نقد آخر بقوة ليقول: "تتعلق حجة ماير الرئيسية بعدم قدرة الطفرات العشوائية والانتخاب على إضافة معلومات للدنا DNA الموجود سلفا"(4)، وحاول دحض النقد الوارد في كتابي لآليات الداروينية الحديثة في التطور البيولوجي وفقا لذلك.
أجد كل هذا سرياليا نوعا ما، كما لو أنني أهيم في فصل مفقود من رواية لكافكا. كتاب (التوقيع في الخلية) لم ينتقد نظرية التطور البيولوجي، ولم يشكك في قدرة الطفرة والانتخاب على إضافة معلومات جديدة للدنا DNA الغني بالمعلومات الموجودة سلفا. ينطوي الرد بهذه الطريقة -كما فعل منتقدو كتابي- على الاحتكام إلى مغالطة رجل القش.
أما بالنسبة للذين يجهلون المشاكل الخاصة التي يواجهها العلماء الذين يحاولون تفسير أصل الحياة، فربما ليس واضحًا لهم أن استدعاء (الانتخاب الطبيعي) لا يساعد في تفسير نشوء الحياة الأولى، إذ إن كان الانتخاب الطبيعي والطفرات -في نهاية المطاف- قادرين على إنتاج معلومات جديدة في الكائنات الحية، فلماذا لا يمكنها ذلك في بيئة ما قبل الحياة؟ لكنّ التمييزَ بين السياق الحيوي وما قبل الحيوي مهم بشكل حاسم لحُجّتي، إذ يفترض الانتخاب الطبيعي وجود الكائنات الحية القادرة على التناسل، ومع ذلك فإن التضاعف الذاتي في كل الخلايا الباقية على قيد الحياة يعتمد على البروتينات والأحماض النووية -دنا DNA ورنا RNA- الغنية بالمعلومات، ونشوء هذه الجزيئات الغنية بالمعلومات هو بالضبط ما يحتاج الباحث عن أصل الحياة لتفسيره. هذا الذي يجعل (تيوديسيوس دوزانسكي Theodosius Dobzhansky) -وهو أحد مؤسسي النظرية التركيبية الداروينية الحديثة المعاصرة- يقول بطلاقة: "الانتقاء الطبيعي ما قبل الحيوي هو مصطلح متناقض"(5)، أو كما يشرح عالم الأحياء الجزيئية والباحث في أصل الحياة، الحائز على جائزة نوبل (كريستيان دي دوف Christian de Duve) بأن نظريات الانتقاء الطبيعي ما قبل الحيوي فاشلة لأنها: "تحتاج إلى المعلومات، بما يعني أنها تفترض سلفا وجود ما عليها أن تقوم بشرحه في المقام الأول".(6) يبدو أنه من غير الكافي استدعاء عملية تبدأ عملها (فقط) بعد وجود الحياة -أو بمجرد ظهور المعلومات البيولوجية- لتفسير أصل الحياة أو أصل المعلومات الضرورية لإنتاجها.
مع ذلك، كنت أدرك منذ زمن طويل الأسبابَ القوية للتشكيك بقدرة الطفرات والانتخاب على إضافة معلومات جديدة كافية -من النوع الصحيح- لتفسير الابتكارات التطورية الكبروية، لهذا السبب وجدت من المضجر حقا الاعتراف –ولو من باب تجنب الجدال- بصحة شيء أعتقد أنه خطأ.
استمر التثبيط المتكرر من النقاد حتى حدوده القصوى، رغم أنني لم أؤلف الكتب، أو أصغ الحجج، ردًّا على انتقادات النقاد لكتابي (التوقيع في الخلية)، إلا أنني قررت كتابة كتاب.. وهذا هو الكتاب.
بالطبع، ربما بدا أن الطريق الأسلم اتّباعه هو عدم تصحيح أي خطأ حاصل، فالعديد من علماء البيولوجيا التطورية اليوم يعترفون كَرْهًا بعجز جميع نظريات التطور الكيميائي عن توفير شرحٍ كافٍ لأصل الحياة، أو للنشوء الأساسي للمعلومات الضرورية لإنتاج الحياة. إذن لماذا تؤكد على فكرة لم تقم بها في المقام الأول؟
رغم التأثير الواسع للمراجع الدراسية textbooks ووسائل الإعلام الشائعة والمتحدثين باسم المؤسسة العلمية على إيصال الفكرة المخالفة، إلا أن عقيدة النظرية الداروينية الحديثة في التطور البيولوجي قد بلغت طريقا مسدودا وخطيرا تماما، كالمعضلة التي تواجه نظرية التطور الكيميائي. ينتقد الأعلام البارزون اليوم في اختصاصات متعددة من البيولوجيـا -بيولوجيا الخلية والبيولوجيا التخليقية والبيولوجيا الجزيئية وعلم الأحافير، بل وحتى البيولوجيا التطورية- العقائد الرئيسية في النسخة الأحدث من النظرية الداروينية، والتي نجدها في الأدبيات الاختصاصية المحكمة والمراجعة من قبل أقران. بمرور السنين ينمو وزن الرأي الناقد للدارونية الحديثة في البيولوجيا باطراد، فمنذ عام 1980 صرح عالم الأحافير بجامعة هارفارد (ستفن جاي غولد Stephen Jay Gould) أن الداروينية الحديثة: "ميتة ومنتهية رغم بقائها كتقليد في المراجع الدراسية".(7)
يلقي تيارٌ مستمر من المقالات والكتب الاختصاصية شكوكا جديدة حول القدرة الخلاقة لآليتي (الطفرة) و(الانتخاب)(8)، هذه الشكوك مترسخة بشكل جيد لدرجة أنه يتوجب الآن على منظري التطور البارزين الاطمئنان بين الفينة والأخرى على شعبية النظرية، إذ يقول عالم البيولوجيا (دوغلاس فوتوياما Douglas Futuyma) أن "مجرد جهلنا بكيفية حدوث التطور لا يبرر الشك في حصوله بتاتا".(9) في حين يدعو علماء بيولوجيا تطورية آخرون –وخصوصا المرتبطين بمجموعة العلماء المعروفة باسم (ألتنبرغ Altenberg)(16)- للانفتاح على نظرية تطورية جديدة؛ لأنهم يشككون في القدرة الخلاقة لآليتي الطفرة والانتخاب الطبيعي.(10)
إن المشكلة الرئيسية التي تواجه الداروينية الحديثة -كما هو الحال في نظرية التطور الكيميائي- هي مشكلة نشوء المعلومات البيولوجية الجديدة، ورغم أن علماء الداروينية الحديثة يهملون غالبا مشكلة أصل الحياة كشذوذ معزول، إلا أن رواد المنظرين يعترفون بفشل الداروينية الحديثة أيضا في تفسير نشوء التنوعات المبتكرة، والتي من دونها لن يستطيع الانتقاء الطبيعي عمل أي شيء. الواقع أن مشكلة نشوء المعلومات تقبع في جذور مشاكل أخرى معروفة في النظرية الداروينية بنسختها الحالية؛ بدءا من نشوء المخططات الجسدية الجديدة، إلى نشوء البنى والأنظمة المعقدة كالأجنحة والريش والعيون ونظام تحديد المواقع بالصدى ونظام تخثر الدم، والآلات الجزيئية والبيضة السلوية والجهاز العصبي وتعدد الخلايا وغيرها الكثير.
في الوقت نفسه لا تتضمن الأمثلة التقليدية الموضحة لبراعة الانتقاء الطبيعي والطفرات العشوائية خلق المعلومات الجينية المبتكرة. تخبرنا العديد من النصوص البيولوجية عن العصافير الشهيرة في جزر الغالاباغوس، التي تنوعت مناقيرها في الشكل والطول بمرور الزمن. وتذكر هذه النصوص أيضا كيف أن جماعات العث في بريطانيا تحولت للون أغمق، من ثم عادت نحو اللون الأفتح استجابة للمستويات المتباينة من التلوث الصناعي. تعرض مثل هذه المشاهد كأدلة حاسمة على قوة التطور، لكن الحقيقة أنها تعتمد على التعريف الذاتي لكلمة التطور، إذ أن لهذا المصطلح معان متعددة، وقليلة هي المراجع الدراسية البيولوجية التي تميز بينها، إذ يمكن أن يشير التطور لأي شيء بدءا من التغير السطحي الدَّوري في حدود الحوض الجيني الموجود سلفا، وصولا إلى خلق البنى والمعلومات الجينية المبتكرة كليا كنتيجة للانتقاء الطبيعي العامل على الطفرات العشوائية. يشرح عدد كبير من علماء البيولوجيا البارزين في الأوراق البحثية التخصصية الحديثة أن التغيرات التطورية الصغروية -الميكروية صغيرة النطاق- لا يمكن تعميمها لتفسر الابتكارات التطورية الكبروية -الماكروية كبيرة النطاق.(11) وفي معظم الأحيان تستخدم التغيرات التطورية الصغروية -كالتغاير في الشكل أو اللون- معلومات جينية موجودة أو معبر عنها، في حين أن التغيرات التطورية الكبروية الضرورية لتجميع أعضاء جديدة أو مخططات جسدية كاملة تتطلب خلق معلومات جديدة بالكلية. كما يلاحظ عدد متزايد من علماء الأحياء التطورية أن الانتخاب الطبيعي يفسر "بقاء الأكثر تكيفا فقط، ولا يفسر ظهور الأكثر تكيفا".(12) تزخر المنشورات المتخصصة في علم البيولوجيا بأسماء علماء بيولوجيا من المستوى العالمي(13) الذين يعبرون بشكل روتيني عن شكهم في جوانب النظرية الداروينية الحديثة، خصوصا العقيدة المركزية فيها، والتي هي القدرة الخلاقة المزعومة للانتقاء الطبيعي والطفرات.
بالرغم من ذلك، تستمر الدفاعات الشائعة عن النظرية، ونادرا ما يتم الاعتراف بالرأي العلمي المتزايد الناقد لموقف النظرية -إن لم نقل غياب هذا الاعتراف بشكل مطلق-. بهذا الشكل، قليلا ما يظهر تباين عظيم بين الإدراك الشائع للنظرية وبين الموقف الحقيقي لها في المنشورات العلمية المحكمة المراجعة من قبل الأقران. ويبدو اليوم أن الداروينية الحديثة المعاصرة تتمتع باستحسان عالمي بين المدونين والصحفيين العلميين وكتّاب المناهج البيولوجية وثُلّة من أشهر المتحدثين باسم العلم كنظرية عظيمة موحدة لكل البيولوجيا. تُقدم مناهجُ الجامعات والمدارس العليا العقيدة التطورية دون مبرر، ولا تعترف بوجود انتقادات علمية مهمة لها. في الوقت نفسه، المنظمات العلمية الرسمية مثل: (الأكاديمية الوطنية للعلوم National Academy of Sciences) و(الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم American Association for the Advancement of Sciences) و(الجمعية الوطنية لمدرسي البيولوجيا National Association of Biology Teachers) تطل بشكل دوري على العامة لتقول بأن النسخة المعاصرة من النظرية الداروينية تتمتع بدعم غير مسبوق بين العلماء المؤهلين، وأن الدليل البيولوجي يدعم بشكل ساحق النظرية. على سبيل المثال، في عام 2006 صرحت (AAAS) بـ"عدم وجود أي جدل مهم ضمن المجتمع العلمي حول صلاحية نظرية التطور".(14) ردد الإعلام هذه التصريحات، وأكدت الكاتبة العلمية في صحيفة نيويورك تايمز (كورنيليا دين Cornelia Dean) عام 2007 أنه "لا وجود لأي تحد علمي مرموق لنظرية التطور كتفسير للتعقيد والتنوع الحيوي على الأرض".(15)
أدركتُ بمرارة مدى التفاوت بين المكانة الجماهيرية المزعومة للنظرية ومكانتها الحقيقية التي تذكر في المجلات التخصصية المحكمة، في الوقت الذي كنت أتجهز فيه للشهادة أمام هيئة التعليم في ولاية تكساس عام 2009. وكانت الهيئة في ذلك الوقت تنظر في تبني فقرة شرطية في معاييرها العلمية التربوية تشجع المدرسين على إعلام الطلاب بقوة وضعف النظريات العلمية، أصبحت هذه الفقرة أزمة سياسية بعد أن أكدت عدة مجموعات أن (قوة التعليم وضعفه) هي الكلمات المفتاحية للخلقيين الإنجيليين المطالبين بإزالة تدريس نظرية التطور من المناهج. رغم توكيد المدافعين عن الفقرة أنها لا تجيز تعليم مذهب الخلق ولا تحظر نظرية التطور، إلا أن المعارضين لها غيروا ادعاءاتهم، فهاجموا الفقرة بالتأكيد على عدم وجود حاجة للنظر في نقاط الضعف في النظرية التطورية الحديثة، لأنه "لا يوجد نقاط ضعف في نظرية التطور"(16) كما قالت (يوجين سكوت Eugenie Scott) المتحدثة باسم (المركز الوطني للتعليم العلمي) في تصريح لصحيفة (The Dallas Morning News).
في الوقت عينه كنت أجهز حزمة من مئة مقالة علمية محكمة، يستعرض فيها علماء البيولوجيا المشاكل الجسيمة في النظرية، وقد عرضتها لاحقا أمام هيئة التعليم أثناء شهادتي. لذا علمت بشكل قاطع أن د. سكوت كانت تحرف رأي المجتمع العلمي حول النظرية في المنشورات العلمية ذات الصلة، وعلمتُ أيضا سبب محاولاتها منع الطلاب من سماع شيء حول المشاكل الجسيمة التي تعتري النظرية التطورية، والتي ربما قضّت مضجع داروين نفسه. يعترف داروين في كتابه حول أصل الأنواع بكل صراحة بنقاط الضعف الرئيسية التي تعتري نظريته، ويقر بشكه حول المواضيع الأساسية فيها، لكن المدافعين عن منهاج دارويني بحت لا يريدون ذلك، ولا يريدون حتى أي شكوك علمية حول النظرية الداروينية المعاصرة الملقاة إلى أذهان الطلاب.
يوثق هذا الكتاب شكَّ داروين الأكبر، وماذا جرى له، ويختبر حدثًا مهما في فترة حاسمة من التاريخ الجيولوجي ظهرت فيه أعداد هائلة من الأشكال الحيوانية فجأة، ودون أسلاف تطورية محفوظة في السجل الأحفوري؛ وهو الحدث الغامض الذي يرمز له عادة بـ(الانفجار الكامبري). وكما أقر داروين بنفسه في كتابه (أصل الأنواع)، فقد نظر داروين لهذا الحدث على أنه شذوذ مقلق يرجو من الاكتشافات الأحفورية المستقبلية أن تقضي عليه نهائيّا. قسمتُ الكتابَ لثلاثة أجزاء رئيسية...
يصف الجزء الأول (لغز الأحافير المفقودة) المشكلة التي ولّدت شكوك داروين أولا، ألا وهي الأسلاف المفقودة لحيوانات العصر الكامبري في السجل الأحفوري ما قبل الكامبري السابق، ومن ثم يسرد المحاولات المستمرة والفاشلة التي قام بها علماء الأحياء والأحافير لحل هذا اللغز.
ويفسر الجزء الثاني الذي أسميته (كيف تبني حيوانا) سبب تزايد حدة معضلة الانفجار الكامبري باكتشاف أهمية المعلومات للأنظمة الحية، حيث يعرف علماء الأحياء الآن أن الانفجار الكامبري لا يمثل انفجارا لأشكال وبنى حيوانية جديدة وحسب، إنما هو انفجار معلوماتي، كان في الحقيقة أحد أكبر الثورات المعلوماتية في تاريخ الحياة. يختبر الجزء الثاني مشكلة كيفية إنتاج المعلومات البيولوجية الضرورية عبر الآليات غير الموجهة -الانتقاء الطبيعي والطفرات العشوائية- لبناء الأشكال الحيوانية الكامبرية، وتشرح مجموعة الفصول هذه السبب الذي يجعل العديد من علماء الأحياء البارزين الآن يشككون في القدرة الخلاقة للآليات الداروينية الحديثة، وتقدم أربعة انتقادات للآليات بناءً على الأبحاث البيولوجية الحديثة.
يقيم الجزء الثالث (ماذا بعد داروين؟) النظريات التطورية الأحدث، لنرى إن كان أيًّا منها يشرح أصل الأشكال والمعلومات بشكل أكثر كفاءة مما تقوم به النظرية الداروينية الحديثة، كما يقدم الجزء الثالث ويقيم نظرية التصميم الذكي كحل ممكن للمعضلة الكامبرية. في حين يناقش الفصل الختامي آثار الجدل حول التصميم في البيولوجيا على الأسئلة الفلسفية الأكبر، والتي تبعث الحياة في معنى وجود الإنسان.
كما يدل عنوان الكتاب، سأوضح كيفية تحول شذوذ معزول، اعترف داروين بكونه (عابرا)، ليتبلور إلى مشكلة جوهرية لكل البيولوجيا التطورية؛ مشكلة نشوء الأشكال والمعلومات البيولوجية.
لكي نعرف منبع تلك المشكلة، والسبب الذي يجعل البيولوجيا التطورية في أزمة، فإننا نحتاج للبدء من الصفر، مع شك داروين نفسه، ومع الدليل الأحفوري الذي ولد ذلك الشك، ومع الجدال الصاخب بين ندّين من أشهر علماء الطبيعة في العصر الفيكتوري؛ عالم الأحافير الشهير من جامعة هارفارد (لويس أغاسيس Louis Agassiz) و(تشارلز داروين) نفسه.
(1) Quastler, The Emergence of Biological Organization, 16.
(2) للعدل، لا بد أن أذكر أنَّ القليل من منتقديَّ حاولوا حقًا دحض أطروحات كتابي الفعلية حول نشأة الحياة، وقد ذكرت وزملائي هؤلاء النقاد في عدة مقالات تم تجميعها في كتاب:
David Klinghoffer, ed. "Signature of Controversy", Discovery Institute Press, 2010.
* تم ترجمة الكتاب في مركز براهين لاحقا في 2018 بعنوان (مناظرة التوقيع في الخلية).
(3) Francisco Ayala, "On Reading the Cell’s Signature," Biologos.org, January 7, 2010, http://biologos.org/blog/on-reading-the-cells-signature.
(4) Venema, "Seeking a Signature," 278.
(5) Dobzhansky, "Discussion of G. Schramm’s Paper," 310.
(6) De Duve, Blueprint for a Cell, 187. (7) Gould, "Is a New and General Theory of Evolution Emerging?" 120.
(8) على سبيل المثال، انظر كتبا مثل:
Kauffman, The Origins of Order; Goodwin, How the Leopard Changed Its Spots; Eldredge, Reinventing Darwin; Raff, The Shape of Life; Müller and Newman, On the Origin of Organismal Form; Valentine, On the Origin of Phyla; Arthur, The Origin of Animal Body Plans; and Shapiro, Evolution.
وهذا غيض من فيض.
(9) ويؤكد فوتوياما: "ليس هنالك بالتأكيد أي اختلاف بين خبراء البيولوجيا حول حقيقة حدوث التطور .... لكن النظرية التي تفسر كيفية حدوثه مسألة أخرى تمامًا، وهي موضع جدل محتدم" (Evolution as Fact and Theory, 8). بالطبع، إنَّ الاعتراف بأن الانتقاء الطبيعي غير قادر على تفسير مظهر التصميم معادل للاعتراف بأنه فشل في القيام بالمهمة المدعاة الموكلة إليه كبديل للمصمم".
(10) Scott Gilbert, Stuart Newman, and Graham Budd, as quoted in Whitfield, "Biological Theory"; Mazur, The Altenberg 16.
(11) Kauffman Kauffman, 361; Raff, The Shape of Life; Miklos, "Emergence of Organizational Complexities During Metazoan Evolution".
(12) Gilbert et al., "Resynthesizing Evolutionary and Developmental Biology."
(13) Webster, How the Leopard Changed Its Spots, 33; Webster and Goodwin, Form and Transformation, x; Gunter Theissen, "The Proper Place of Hopeful Monsters in Evolutionary Biology," 351; Marc Kirschner and John Gerhart, The Plausibility of Life, 13; Schwartz, Sudden Origins, 3, 299–300; Erwin, "Macroevolution Is More Than Repeated Rounds of Microevolution";Davidson, "Evolutionary Bioscience as Regulatory Systems Biology," 35; Koonin, "The Origin at150," 473–75; Conway Morris, "Walcott, the Burgess Shale, and Rumours of a Post-Darwinian World," R928-R930; Carroll, "Towards a New Evolutionary Synthesis," 27; Wagner, "What Is the Promise of Developmental Evolution?"; Wagner and Stadler, "Quasi-independence, Homology andthe Unity of Type"; Becker and Lönnig, "Transposons: Eukaryotic," 529–39; Lönnig and Saedler, "Chromosomal Rearrangements and Transposable Elements," 402; Muller and Newman, "Origination of Organismal Form," 7; Kauffman, At Home in the Universe, 8; Valentine and Erwin, "Interpreting Great Developmental Experiments," 96; Sermonti, Why Is a Fly Not a Horse?; Lynch, The Origins of Genome Architecture, 369; Shapiro, Evolution, 89, 128. David J. Depew and Bruce H. Weber,writing in the journal Biological Theory, are even more frank, "Darwinism in its current scientific incarnation has pretty much reached the end of its rope" (89–102).
(14) "Statement on Teaching Evolution by the Board of Directors of the American Association for the Advancement of Science," St.Louis, Missouri, February 16, 2006; (accessed October 26, 2012)".
(15) Dean, "Scientists Feel Miscast in Film on Life’s Origin".
(16) Eugenie Scott, quoted in Stutz, "State Board of Education Debates Evolution Curriculum"; alsorequoted in Stoddard, "Evolution Gets Added Boost in Texas Schools".