ظاهرة جزيئية
لقد بات من المألوف، بل من المبتذل تقريباً، أنْ نقولَ: إنَّ العلمَ قدْ قطعَ خطواتٍ كبيرةً في فهم الطبيعة، فقد بلغ فهمنا لقوانين الفيزياء درجة تسمح لمسابير الفضاء بالسفر دون أنْ تضلَّ طريقَها لتصور عوالم بعيدة عن الأرض مليارات الأميال، أما الحواسيبُ والهواتفُ والأضواءُ الكهربائيةُ وغيرُها من الأمثلة فتقف شاهدة على تسخير العلم والتكنولوجيا لقوى الطبيعة، وأما اللقاحات والمحاصيل وفيرة الإنتاج فقد صدت هجمات العدوين القديمين للبشرية -المرض والجوع - على الأقل في بعض نواحي العالم، ويعلَن كل أسبوع تقريبًا عن اكتشافات في البيولوجيا الجزيئية تعزز الأمل بالشفاء من الأمراض الوراثية وغيرها.
ومع كل ذلك فإنَّ فهْمَ كيفية عمل الأشياء لا يكافئ معرفة من أين جاءت، إذ يمكننا على سبيل المثال توقع حركة الكواكب في النظام الشمسي بدقة بالغة، ولكن يبقى أصل النظام الشمسي موضع جدل (أيْ السؤال عن كيفية تشكل الشمس والكواكب وأقمارها منذ البداية)(1)، قد يحل العلم الأحجية في نهاية الأمر، ولكن المسألة قائمة لأنَّ فهم أصل الشيء مختلف عن فهم عمله اليومي.
إن سيطرة العلم على الطبيعة قد دفعت الكثيرين لافتراض قدرة العلمِ أيضًا على تفسير أصل الطبيعة والحياة (بل حتى افتراض وجوب أن يكون قادرا على ذلك)، وما افترضه داروين من إمكانية تفسير الحياة بالانتقاء الطبيعي الذي يعمل على التنوع الحيوي، لقي قبولًا واسعًا في الأوساط المثقفة لأكثر من قرن، رغم أنَّ الآلياتِ الأساسيةَ للحياة بقيت غامضة من حينها وحتى بضعة عقود سابقة.
اكتشف العلم الحديث في النهاية أنَّ الحياةَ ظاهرةٌ جزيئية: أيْ أنَّ كلَّ الأحياء مكونة من جزيئات هي بمثابة الصواميل والبراغي، والتروس والبكرات، للأنظمة الحيوية. وبالتأكيد نجد في المستويات الأعلى صورا حيوية معقدة (مثل دوران الدم)، ولكن التفاصيل النهائية للحياة تكمن في مجال الجزيئات الحيوية، لذلك وَضع علم الكيمياء الحيوية (الذي يدرس هذه الجزيئات) على عاتقه مهمة استكشاف الأساس الجزيئي العميق للحياة.
تولى علم الكيمياء الحيوية منذ منتصف الخمسينيات عبء تفسير علم الحياة على المستوى الجزيئي، ولئن جهل دارون سبب الاختلافات بين الأنواع (رغم أنها من مطالب نظريته) فإنَّ علمَ الكيمياء الحيوية تعرَّف على الأساس الجزيئي للتنوع، ومقابل عجز علم القرن التاسع عشر عن معرفة آلية الرؤية أو المناعة أو الحركة نجد أنَّ الكيمياء الحيوية الحديثة قد عرفت الجزيئات التي تمكّن من أداء هذه الوظائف وغيرها.
كان التوقع السائد في الماضي أن يكون أساس الحياة بسيطًا جدًا، ولكنها توقعات مُنيت بالخيبة، إذ أثبتت الحركة والرؤية وغيرها من الوظائف أنَّها ليست أقلَّ تعقيدًا من كاميرات التلفاز والسيارات. لقد أحرز العلم تقدمًا كبيرًا في فهم كيفية عمل كيمياء الحياة، ولكنه وقف عاجزا أمام تفسير أصل أناقة وتعقيد الأنظمة الحيوية على المستوى الجزيئي. ولم تحدث عمليًّا أيَّة محاولة لتفسير نشوء أنظمة حيوية جزيئية معقدة معينة فضلًا عن وجود أيّ تقدم في هذا المجال.
أكد العديد من العلماء بقوة أنَّ التفسيرات متاحةٌ بسهولة أو ستكون متاحةً عاجلًا أو آجلًا، ولكن لم تحظ هذه التأكيدات بسند حقيقيّ في المنشورات العلمية الاحترافية، والأهم من ذلك وجود أسباب تفرض ذاتها "اعتمادا على بنية الأنظمة الحيوية نفسها" تدفعنا للاعتقاد بأنَّ أي تفسير دارويني لآليات الحياة سيظل تفسيراً مراوغا (elusive).
مصطلح التطور كلمة مرنة(2) قد يستخدمها شخص بمعنًى بسيط كالتغير عبر الزمن، ويستخدمها آخر بمعنى تحدر كل أشكال الحياة من سلف مشترك دون تحديد آليات التغيير. وفي معناه الكامل -أيْ من وجهة نظر بيولوجية- يعتبر التطور عملية ظهرت فيها الحياة من مادةٍ غيْرِ حيةٍ ثم تطورت كليًّا بوسيلة طبيعية، وهذا هو المعنى الذي اعتمده داروين لكلمة تطور وهو ما تعنيه كلمة تطور في الوسط العلمي وهو ما سنستخدمه خلال هذا الكتاب كله.
اعتذار عن التفاصيل
قدم سانتا كلوز (بابا نويل) قبل عدة سنوات هدية لولدي الأكبر: دراجة بلاستيكية ثلاثية العجلات بمناسبة عيد الميلاد، ولكن لسوء الحظ بسبب كثرة مشاغل بابا نويل لم يكن لديه الوقت ليخرجها من العلبة ويركبها قبل أنْ يرحل، وهكذا أصبح تركيبها مهمتي كأب، فأخرجتُ قطع الدراجة من علبتها وفتحت ورقة تعليمات التركيب وتنهدت إذ كانت 6 صفحات من التعليمات المفصلة: أخرِج البراغي المختلفة ذات الأنواع الثمانية وصُفها جنبًا إلى جنب، أدخل برغيين من قياس 1.5 إنش عبر المسكة في قصبة الدراجة، أدخِل القصبة عبر الفتحة المربعة في جسم الدراجة وهكذا، ورغم أنَّ قراءةَ التعليمات كانت ضد رغبتي ولكني أعرف أنَّهُ لا يمكن قراءتها بسرعة واستخلاص الزبدة كما أفعل بصحيفة، فالغاية كلها تكمن في التفاصيل، وهكذا شمرت عن ساعدي وفتحت زجاجة مرطبات وجلست للعمل، وبعد عدة ساعات جمعت أجزاء الدراجة، حيث قرأت خلال العملية كل تعليمة أكثر من مرة حتى تثبت في ذهني، ونفذت بالضبط المهام الواردة فيها.
يبدو أنَّ بغضي للتعليمات ظاهرة منتشرة، فعلى الرغم من أنَّ معظمَ الأسر تمتلك مسجل أشرطة فيديو إلا أن معظمهم لا يمكنهم برمجته. ورغم أنَّ هذه العجائب التقنية قد أرفق معها تعليمات تشغيل كاملة، إلا أن فكرة الدراسة المملة لكل علم يحتاجه فهم كتيب التعليمات تجعل معظم الناس يدفعون هذا العمل لأقرب صبي في العاشرة من عمره.
لسوء الحظ أن معظم الكيمياء الحيوية يشبه دليلَ التعليمات، ووجه التشابه أنَّ الأهميةَ تكمن في التفاصيل، فطالب الكيمياء الحيوية الذي يتصفح سريعًا كتابًا في تخصصه سيجلس في الامتحان بلا شك محدقًا في سقف القاعة وجبينه يتصبب عرقا، فتصفح كتاب في الكيمياء الحيوية لا يؤهل الطالب لأسئلة من نوع "وضح بالتفصيل آلية حلمهة رابط الببتيد بأنزيم التريبسين مُوْلِيًا اهتمامًا خاصًّا بدور طاقة ارتباط الحالة الانتقالية"، ورغم وجود العديد من المبادئ العامة للكيمياء الحيوية التي تساعد الإنسان على فهم الصورة العامة لكيمياء الحياة، إلا أن المبادئ العامة لا تأخذك إلى تلك المرحلة. ولو حملت إجازة في الهندسة فإنَّ هذا لا يغنيك عن متابعة كتاب تعليمات تجميع الدراجة، ولا يمكن لشهادتك أنْ تساعدك مباشرة في برمجة جهاز تسجيل الفيديو.
لسوء الحظ يدرك الكثيرون الدقةَ الحرجة للكيمياء الحيوية؛ فالذين يعانون من فقر الدم المنجلي ويتحملون الألم في حياتهم التي قصَّر المرض أمدها، يعلمون أهمية التفصيل الصغير الذي غيّر واحدًا من 146 حمضًا أمينيًّا في واحد من عشرات آلاف البروتينات الموجودة في أجسامهم. ومثلهم آباء الأطفال الذين ماتوا بسبب (التاي–ساكس Tay-Sachs) أو التليف الكيسي أو المرضى الذين يعانون من السكري أو الناعور يعلمون تمامًا ما هي أهمية التفاصيل في الكيمياء الحيوية.
وهكذا فإنني كمؤلف أسعى ليقرأ الناس كتابي، تواجهني معضلة، وهي أن الغالبية لا يفضلون قراءة التفاصيل، وبالمقابل فإنَّ قصة تأثير علم الكيمياء الحيوية على نظرية التطور تعتمد كليًّا على التفاصيل. وبالتالي فأنا عليَّ أنْ أكتب نوعًا من الكتب لا يحب الناس قراءته، لأقنعهم بالأفكار التي دفعتني للكتابة. ولكن لا بد من التعرف على التعقيد قبل تقدير قيمته، ولذلك فإنَّني أعتذر لقارئي الكريم وأطلب منه الصبر فهناك الكثير من التفاصيل في هذا الكتاب.
قسمت الكتاب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يقدم نظرة عامة للموضوع ويبين لماذا يجب مناقشة التطور على المستوى الجزيئي "مجال علم الكيمياء الحيوية"، ويخلو هذا القسم تقريبًا من التفاصيل التقنية إلَّا ما يتسلل منها خلال مناقشة العين.
القسم الثاني: يحوي "فصول الأمثلة" حيث توجد معظم التعقيدات الفنية.
القسم الثالث: مناقشة غير تقنية لمضامين اكتشافات الكيميائية الحيوية.
إذًا، يقتصر وجود المادة الصعبة على القسم الثاني غالبًا، ولكني أكثرت فيه من استخدام القياس على الأمور المألوفة من مواضيع الحياة اليومية لأوصل الفكرة للقراء، وقللتُ في هذا القسم أيضًا من تفاصيل وصف الأنظمة الكيميائية الحيوية المعقدة، وأبعدت الفقرات التي تحوي الكم الأكبر من التفاصيل "المتخمة بالمصطلحات التقنية المؤذية للعين" خارج النص العادي بالعلامة لأشجع القارئ، فبعض القراء قد يتابع مباشرة وبعمق الفصل الثاني، بينما يتمنى آخرون تصفحه بسرعة أو تخطي بعض الفقرات ثم يعودون لها عندما يتأهبون لتقبل المزيد. وبالنسبة لأولئك الذين يريدون فهماً أعمق للكيمياء الحيوية فقد وضعت ملحقًا يختصر بعض مواضيع الكيمياء الحيوية العامة، وأشجع الذين يريدون كل التفاصيل أن يستعيروا كتابا تمهيديًّا عن الكيمياء الحيوية من المكتبة.