لماذا هذا الكتاب؟!
يقول داروين في كتابه (أصل الأنواع): "إذا أمكن إثبات وجود عضو معقد لا يرجح تكونه عبر العديد من التعديلات الطفيفة المتوالية، تنهارُ نظريتي انهيارًا كاملًا". وبالرغم من أن هذه الجرأة قد تحسب في صالح داروين، إلا أنها ستحسب ضد مؤيديه الحاليين. فالخلية التي كانت تبدو لدى داروين ومعاصريه كبقعة بروتوبلازمية بسيطة، أصبح البيولوجيين الآن –مع الثورة البيوتكنولوجية الحديثة– يرونها كمصنع معقد من الآلات الجزيئية. فهل سيعيد الداروينيون النظر في نظرية داروين على ضوء المعطيات الجديدة؟ أم أنهم سيلوون عنق الحقائق للإبقاء على الدوجما المادية الطبيعانية القابعة وراء أفكاره؟
حسنا... لعل أحدهم سيغرد خارج السرب، وسيفضل اتباع الدليل عن اتباع الكثرة.
طوال فترة دراسته وحتى بعد تخرجه وحصوله على الدكتوراه –في 1978م–، لم يكن لدى بيهي سببا للشك في الداروينية. ولكنه حين بدأ الانتباه لذلك التعقيد المذهل الموجود في الماكينات الجزيئية التي يتعامل معها بشكل دوري كمختص في الكيمياء الحيوية، تغيرت الصورة لديه. بدأ بيهي الشك في صلاحية التفسير الدارويني لنشأة وتنوع الحياة مع بداية تعامله مع السوط البكتيري، وازداد شكه بعد أن وجد أن هناك عدد من العلماء –على عكس ما يشاع– لديهم اعتراضات علمية على النظرية. فهو بعد أن قرأ كتاب عالم الجينات د. مايكل دنتون (التطور: نظرية في أزمة)، لم يكن من السهل عليه إطلاقا تجاوز الأمر والسير في حياته العملية التي كانت تسير على ما يرام قبل ذلك. قرر بيهي بعد قراءته لكتاب دنتون العودة لفحص الأدلة بشكل أوسع، وخرج من فحصه بنتيجة ستصبح فيما بعد أحد أركان النظرية الجديدة التي من شأنها أن تحل محل التطور الدارويني، وستصبح أيضا السبب في كتابته لهذا الكتاب؛ (التعقيد غير القابل للاختزال).
تقتضي نظرية داروين –كما هو واضح من النقل السابق من كلام واضع النظرية– أن أي عضو معقد قد نشأ في مسيرة التطور، نشأ عن طريق عدة تعديلات متعاقبة، أي أن مجموع التعديلات التي أنشأت العضو المعقد قابلة للاختزال أو التدرج. ولكن حينما أمعن بيهي النظر في السوط البكتيري، لم يكن هناك أي سبب يدعوه للشك في أن هذا النظام قد يكون قابلا للاختزال، فإنك إن أزلت منه أي جزء، لن يستمر في عمله. وبالتالي؛ نحن أمام هذا النظام الذي انتظره داروين لكي يعلن انهيار نظريته.
لم يصدق بيهي نفسه، وقال وقتها أنه لا بد أن يكون مخطئا، ولا بد أن يكون لدى أحد ما تفسير مقبول لكيفية نشوء مثل هذه الأشياء. ولكنه صعق حينما لم يجد أي تخمين حتى لدى أي أحد. أسقط في يديه، وشعر أنه قد خدع طوال هذه السنوات التي كان يصدق فيها أن الداروينية هي التفسير غير القابل للنقاش. ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى لفحص مفهومه بشكل أوسع، ولمشاورة من استطاع أن يصل إليه من العلماء، ليجد العديد من الأمثلة التي يصعب حصرها، والتي تصب في نفس الاتجاه، وليجد أن تلك الأنظمة لا يمكن تفسيرها في ضوء التطور التدريجي، وإنما يتحتم رؤيتها في ضوء التصميم الذكي. في النهاية، كللت جهوده في بداية أغسطس 1996م بنشر الكتاب.
نشرت (نيو يورك تايمز New York Times) مراجعة للكتاب قبل نشره بأسبوع، وظهرت بعد ذلك عدة مراجعات للكتاب في المجلات الشهيرة كـ(نيتشر Nature) و(التايم Time) و(وول ستريت جورنال Wall Street Journal) و(ساينس Science) وغيرها من المجلات المختصة والشعبية، وصنفته مجلتي (وورلد ماجزين World magazine) و(ناشيونال ريڤيو National Review) من ضمن أهم 100 كتاب في القرن العشرين. وحقق الكتاب مبيعات عالية وانتشار واسع، ولقي حفاوة بالغة، وعداء منقطع النظير.
مئات المقالات الناقدة في أشهر المجلات والدوريات، وانتقادات من العديد من العلماء البارزين، ومناظرات في العديد من الجامعات الأمريكية والأوروبية. الكل يحاول أن يرد، ولا أحد يأتي بتفسير مقبول لكيفية نشأة الأنظمة غير القابلة للاختزال في الإطار الدارويني. بل ووصل الأمر إلى صدور بيان من الجامعة التي يعمل بها بيهي (جامعة ليهاي)، تتبرأ فيه من أفكار بيهي عن التعقيد غير القابل للاختزال والتصميم الذكي. ولكن كل ذلك كان رد فعل طبيعي ومتوقع، فالتعصب للداروينية هو السمة المميزة للساحة العلمية، وما فعله بيهي ليس سهلا على الإطلاق. لكن من غير الطبيعي أن يصل هذا العداء إلى اجترار نظرية التصميم الذكي إلى ساحة القضاء. فبدلا من أن يستمر النقاش بين النظريات المتعارضة في المقالات والكتب والمعامل والأبحاث، حاول الداروينيون إنهاء الأمر من خلال حكم قضائي.
قررت إدارة منطقة مدارس مدينة دوفر في ولاية بنسلفانيا قراءة بيان على طلاب البيولوجيا في المدرسة مفاده أن نظرية التطور ليست النظرية الوحيدة التي تحاول تفسير نشأة وتنوع الحياة، وأن هناك نظرية أخرى تدعى بالتصميم الذكي، وأن الطلاب إذا رغبوا في التوسع عن الأمر يمكنهم الرجوع إلى كتاب (الباندا والناس) الموجود في مكتبة المدرسة. كان البيان كفيلا لمعارضي بيهي ونظرية التصميم لمحاولة استصدار حكم قضائي ليس ببطلان تصرف إدارة المدرسة، ولكن بأن نظرية التصميم الذكي ليست نظرية علمية. واشترك في ذلك كينيث ميلر (أستاذ البيولوجيا بجامعة براون وشاهد الادعاء الأول) مع المركز القومي لتدريس العلوم NCSE (الهيئة الاستشارية للادعاء، وأشد المعارضين لوجود أي معارضة علمية لنظرية التطور). وبالرغم من سخافة تدخل القضاء في تحديد ماهية النظريات العلمية، ولكن بالفعل أصدر القاضي حكمه في 20 ديسمبر 2005م بأن نظرية التصميم الذكي ليست نظرية علمية. فكان ماذا؟!
يقول بيهي في مقاله (هل التصميم الذكي علم أم لا؟!) الذي نشره ردا على حكم القاضي: "بعد يوم من إصدار حكم القاضي، في 21 ديسمبر 2005م، وكما كان الأمر يسري سابقا، تسير الخلية بتعقيد مدهش وآلية وظيفية، والتي كان سيتم إدراك حقيقة كونها مصممة في أي سياق آخر. في 21 ديسمبر 2005، وكما كان الأمر يسري سابقا، لا يوجد أي تفسير للآلية الجزيئية في الحياة بخلاف التصميم إلا التكهنات الحالمة والقصص المختلقة".
مشكلة ماهية تحديد العلوم، أو الفصل بين العلم والعلم الكاذب، أو Demarcation problem، هي أحد أصعب المشاكل في مجال فلسفة العلم، فمجرد محاولة أحد القضاة –الذي ليس له علاقة لا بالممارسة العلمية ولا بفلسفة العلوم– التدخل في الأمر، فضلا عن حسمه، هي محاولة محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ.
المفهوم الذي أتى به بيهي هنا في هذا الكتاب؛ التعقيد غير القابل للاختزال، أربك الداروينيون أشد الإرباك، والكارثة أن شاهده الأكبر على سقوط النظرية بثبوت مفهومه، هو واضع النظرية نفسه. فمن الآلات الجزيئية المعقدة في الخلية، وصولا إلى العقل البشري، يفشل التطور التدريجي عن طريق الانتقاء العامل من خلال الطفرات تماما في التفسير، ويتحتم علينا الاستعانة بمفهوم التصميم الذكي (الترتيب الغائي المتعمد للأجزاء عالية التعقيد للحصول على النظم البيولوجية) لكي نستطيع فهم نشأة وتنوع الحياة.
وإن كان من كلمة أخيرة قبل النهاية، فهي الشكر لكل أفراد فريق العمل الذي ساهم في خروج الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وكذلك للقراء الذين راسلونا منذ صدور الطبعة الأولى معبرين عن فرحتهم بظهور الترجمة العربية. والاعتذار لمن لم يستطيعوا الحصول على الطبعة الأولى وانتظروا هذه الطبعة كثيرًا، ولعل محاولتنا تجويد هذه الطبعة قدر الإمكان تكون شافعا لنا عندهم. ثم النصيحة لمن قرأ ولمن سيقرأ، القليل من التأني قبل الحكم لن يضرك في شيء.