لماذا هذا الكتاب؟!
يُعد كتاب (البحوث الفلسفية) لـ"ﭬتجنشتاين" من أهم النصوص الفلسفية في القرن العشرين، ولولا ما كتبه "هايدجر" لكان التفضيل مطلقًا، فهو بمثابة نقلة نوعية في مجالات عدة؛ كفلسفة اللغة، وفلسفة العقل، ويمثل تحولاً جذريًّا في الفلسفة اللغوية التي بدأها "ﭬتجنشتاين" نفسه بـ(رسالة منطقية فلسفية) وهو شاب.
وهناك بعض المطبوعات العربية التي تحدثت بشكل جيد عن قراءة الوضعية المنطقية للرسالة وتأويلها لها، وتوظيفها في رسم الحدود بين العلم واللاعلم، لكن في المقابل لا تكاد تجد شيئًا عن "ﭬتجنشتاين" المتأخر أو "ﭬتجنشتاين" البحوث، رغم المكانة الرفيعة لهذا الكتاب.
نود أن نُعرِّف القارئ العربي بهذا الكتاب لسببين رئيسيين:
أولاً: معرفة المشاغل الفلسفية الحديثة جدًّا، وكيف يتحرك الفكر الغربي الفلسفي منذ ستينيات القرن الماضي، فبعد قراءته لهذا المدخل –لاسيما لو أتبع ذلك بقراءة كتاب "ﭬتجنشتاين" نفسه– سيتمكن القارئ مبدئيًّا من فهم الموضوعات الرئيسية التي تُناقش في مجالات: فلسفة العقل، واللغة، والفعل، والفلسفة الظاهراتية ونقدها... وغير ذلك.
وثانيًا –وهو الأهم–: لتحريض الباحثين والمفكرين على قراءة هذا الكتاب قراءةً دينيةً؛ أي توظيفه في ترسيخ مضامين معرفية دينية، بدايةً من إثبات وجود الله، وانتهاءً بتفاصيل هامة للغاية في فهم النص عمومًا –رغم بساطتها–.
كتب "ﭬتجنشتاين" كتابه (البحوث الفلسفية) في أواخر عمره بروح غير متوافقة مع الحضارة الغربية الحديثة، التي سيطر فيها العلم التجريبي على تصوراتنا وثقافتنا وقيمنا ومعاييرنا؛ التصورات التي أثرت على "" وهو شاب فكتب الرسالة المنطقية الفلسفية بعقل منطقي أداتي، رغم قلقه الأخلاقي منذ شبابه.
يمكن إجمالاً تصنيف الرسالة ككتاب فلسفة، علم قريب من التفكير الوضعي، أما البحوث أو الفترة المتأخرة عمومًا ففترة انتصار للدين، وإعادة قراءة لدوره وأهميته، وذلك داخل قراءة جديدة للعقل واللغة والمجتمع.
في هذه المرحلة مثلاً قدم "ﭬتجنشتاين" بعض التعليقات على كتاب "الغصن الذهبي" لـ"جيمس فرايزر"، ينتقد بها استعمال تصورات الحضارة الغربية الطارئة على الفكر البشري في تصور البدائيين أو الدين في الحضارات القديمة، وصحح الممارسات الدينية بوصفها ممارسات اجتماعية صحيحة، وغير ذلك من التعليقات النفيسة التي استفاد منها الأنثروبولوجيون.
وفي هذه المرحلة أيضًا انتصر "ﭬتجنشتاين" لتصورات الرجل العادي أو التصورات الفطرية، في مقابل الشذوذ الفلسفي أو التجريبي؛ لذلك نقدم هذا الكتاب كمادة خام لنقد الإلحاد الحديث.
وقد سبق إلى بعض ذلك كبار المفكرين واللاهوتيين؛ فمثلا: عالم اللاهوت والفيلسوف المسيحي الأكبر "ألڤين بلانتنجا" قرأ فقرات قليلة من البحوث قراءة عميقة، ووظفها في إثبات وجود الله في كتابه "الله والعقول الأخرى"، وما زال يطور هذه الحجة حتى وقت قريب، وفي نفس الوقت قرأها كحجة في نفسها لحل مشكلة العقول الأخرى، المشكلة الفلسفية العتيقة.
فيلسوف العلم بالغ التأثير "توماس كون"، الذي قدم عمله المهم للغاية "بنية الثورات العلمية" بعد قراءة متأنية لفكرة "ألعاب اللغة" في كتاب "ﭬتجنشتاين"، والذي يُستخدم كثيرًا لإيقاف سيطرة العلم التجريبي على حياتنا، ووضعه في إطاره الضيق، وعدم السماح له بالدخول في قيمنا وحياتنا الاجتماعية، ورفض اعتبار علماء التجربة موضوعيين خالصين، وغير ذلك من التوظيفات المهمة.
وهذا مجرد تمثيل، فـ"ﭬتجنشتاين" المتأخر، ﭬتجنشتاين البحوث الفلسفية، الذي هو الأكثر حضورًا في النقاشات الفلسفية الآن، ولا يخلو كتاب في المجالات سالفة الذكر من أفكاره المركزية، فضلاً عن كونه مصدر إلهام لمن بعده، كـ"سول كريبكي" و"هيلاري بوتنام"... وغيرهم.
لكن الغريب فعلاً، والذي نأمل أن نغيره بهذا المدخل، هو اعتماد النقد العربي للإلحاد الفلسفي على كتابات "كارل بوبر" –فيلسوف العلم الذي يستعمل الميتافيزيقا أو الدين كخادمة للعلم! لا كأصل ضروري من التجربة البشرية الثقافية لا يقل شأنًا عن العلم، بل أرفع شأنًا لتجذره عبر كل الحضارات.
على الجانب الآخر يأتي الملحدون بقراءة توظيفية –رغم معارضة هذه التأويلات لأفكار "ﭬتجنشتاين" المتأخرة بجلاء– للبحوث؛ فمثلاً من قرأ لـ"دانييل دانيت" –الملحد الشهير– عن الوعي يعلم تأثره وتوظيفه لأفكار "ﭬتجنشتاين"، وكيف يجعل المحتمل قاطعًا في اتجاه إلحادي.
فالحاصل أن كتاب "ﭬتجنشتاين" يعد ترسانة فكرية لمواجهة الإلحاد الحديث، وأن كثيرًا من علاج الإلحاد الفلسفي الحديث يسكن فيه، لكنه صعب المراس، صياغة وأفكارًا، ولا يمكن فهمه بمجرد النظر المدقق فيه، خصوصًا في الترجمة العربية، فرغم أن كتاب البحوث قد تُرجم مرتين إلا أن مثل هذه الكتب يعسر جدًّا ترجمتها، وتحتاج الترجمة إلى تدخل وابتكار والبعد عن التأويل ما أمكن.
أما ترجمة "عزمي إسلام"، فهي أحسن صياغة، لكنها مترجمة عن الترجمة الإنجليزية لتلميذة "ﭬتجنشتاين" "أنسكومب" عن النص الألماني، وعليها انتقادات وتعقيبات متواترة، مجمعة في مقدمة الطبعة التي صدرت في عام 2007، وجمعت بين النص الألماني والإنجليزي.
أما ترجمة "عبد الرازق بنور"، فرغم أنها عن الألمانية إلا أن التأويل ظاهر فيها، والمراجع التي ذكرها المترجم في الهامش وفي مقدمة الترجمة أغلبها مراجع تأويلية، وأثرت بطبيعة الحال في فهم النص، فالكتاب بحاجة إلى ترجمة فريدة وحديثة في نهاية الأمر، ومن أجل صعوبة فهم الكتاب قدمنا هذا المدخل الهام الميسر.
وقد اخترنا هذا المدخل دونًا عن المداخل الأخرى لأسباب متعددة، منها: حسن بيان المؤلفة، وترتيب أفكارها، وموضوعيتها، ومناقشتها للجزء الثاني من الكتاب –المتعلق بعلم النفس الفلسفي الذي يُغفل عنه– والأهم من ذلك أن المؤلفة لها موقف من تأويل نصوص "ﭬتجنشتاين" نظنه حسنًا؛ فهي تحترز –إلى حد بعيد– من نسبة أي تأويل للنص الأصلي، ومن ثم تحتفظ ببراءة النص ما أمكن.
وفي الختام نتمنى أن تصبح "بحوث" "ﭬتجنشتاين" بدايةً لقراءات وتوظيفات ثرية كاملة البناء لنقد الإلحاد الحديث.
رضا زيدان
مدير قسم البحوث الفلسفية بمركز براهين