لماذا هذا الكتاب؟!
إن كانت نظرية تشارلز داروين للتطور قد أثبتت –كما يدّعي أنصاره– خلو العالم من الغاية، فلا نبالغ إن قلنا أن هذا الكتاب قد أثبت العكس، وأعاد الأمور إلى مجراها الصحيح. يرتحلُ مؤلف هذ الكتاب، عالم الكيمياء الحيوية مايكل دنتون، من قوانين الفيزياء إلى الكيمياء، ومن البيولوجيا إلى خصائص الماء وصفات النار، كل ذلك، كما يقول رفيقه الذي اللّامع مايكل بيهي، ليبرهن على أن الكون برمته، لا الطبيعة فحسب، قد هُيئ تهيئةً خاصة لحياة البشر.[1] مضت سبعة أعوام، وما زالت كلمات ستيفن جاي جولد المروّعة تقرع سمعي: "قد لا تكون الحياة، بأي معنى من المعاني الحقيقية، لنا أو من أجلنا. قد لا نكون أكثر من فكرة حانت بعد فوات الأوان، صدفة كونية، لعبة وحيدة على شجرة ميلاد التطور... نحن فُضلة، لا غاية".[2] مثل هذه الكلمات الباعثة على اليأس لم تكن لتكون لولا مروية التطور الدارويني، مروية العبث الماحق. من الأهمية بمكان التنبه لحيلة نفسية ماكرة يبديها الدراونة عموما، وملاحدتهم خصوصا، ألا وهي الإيحاء بأن مروية العبث هذه أصلٌ لا ينتهي إليه إلا شجاع مُنصف، ولا يكذبه أو يعرض عنه إلا ضعيف مراوغ. ولقد تفرَّستُ وجوه عُتاتهم، كدانييل دينيت وأقل منه ريتشارد دوكينز، فوجدتهم يتجلَّدون في الصبر على مرارة هذه "الحقيقة المتوهمة" -إن جاز التعبير– مخافة أن يوصموا بقلة العقل وضعف القلب، وهو مظهرٌ من مظاهر الثقة التي اتسّم بها أئمة الإلحاد الجديد، لدرجة أن المرء، كما ذكرتُ في غير هذا الموضع، "ليتملّكه العجب من هذه الثقة المبرمة –على الأقل فيما يبدو–... في أصالة الفكرة الإلحادية"[3]، حتى وجدنا ثقة قطاع واسع من أتباع أولئك مرهونة بثقة من يتبعون لا أكثر.
عودة للكتاب؛ ينص المؤلف صراحةً على غايته من تأليفه، وكأني به قد نقل حرارة شعوره الاضطراري بالغاية في قوانين الكون إلى شعوره الاضطراري والاختياري معا بأنه لا يمكن أن يكتب كتابا بلا غاية، وهل يمكن أن تحبِل الصدفة بالغاية؟! غاية المؤلف الأولى هي تقديم الأدلة العلمية –لاحظ العلمية– للاعتقاد بأن الكون قد هُيئ تهيئة خاصة وفريدة للحياة عموما، وحياة كائنات من نوعنا خصوصا. أما غاية المؤلف الثانية، فتتمثل في الاحتجاج للرؤية الدينية الغائية القديمة، التي تقضي بأن الكون قد أتقن صنعه، وأن البشر هم ثمرة وجود الكون نفسه على الهيئة التي هو عليها. ولا شكَّ أن هذه رؤية منافية تمامًا للرأي المعتمد من قبل أنصار التطور الدارويني، بل منافية تمامًا لبعض الرؤى التي تتبنى وجهة نظر دينية وتطورية في آن معا؛ كرؤية التطوري الكاثوليكي كينيث ميللر مثلًا. لكن عند تنحية التأثر بسُلطة الرؤى –وأعترف بصعوبة ذلك- وتقديم نظر العقل المنصف في الأدلة، ستظهر أهمية هذا الكتاب البالغة، وستسطع حججه القاهرة وأدلته الباهرة، لتُربِك –إن لم تُغيّر– موقف غلاة الداروينية، فضلًا عمّن دونهم. كيف لا وقد جازف ديفيد بيرلنسكي بثناءٍ لا يُقدِم عليه إلا امرؤ أمِنَ عاقبة التهور، وذلك حين قال: "سيودّ الفلاسفة قراءته، لأنه مثيرٌ جدًا للاهتمام، والبيولوجيون أيضًا لأنه من المرجّح أنهم لم يقفوا على كتاب مثله قط".[4]
إن الرؤية التي يحتج لها هذا الكتاب، ويحشد لها الأدلة من حقول شتى، ليست يتيمة إلى الحد الذي يجيز لمخالفيها وصمها بالشذوذ أو عدم الاعتبار. إنها رؤية أمم لا تحصى منذ فجر التاريخ، ورفع لوائها في القرن العشرين -رغم هيمنة الأيديولوجيا الداروينية- علماء أفذاذ، نذكُر منهم على سبيل المثال لا الحصر: (لورنس هندرسون) بروفيسور الكيمياء الحيوية من جامعة هارفارد وصاحب كتاب (مُلاءَمة البيئة)، الذي يعد من أهم الكتب في القرن العشرين، و(دارسي ثومسون) صاحب كتاب (حول النمو والشكل)، وهو لا يقل أهمية عن الكتاب الأول، و(جورج والد) بروفيسور البيولوجيا من هارفارد ومكتشف الدور الهام لفيتامين (أ) في عملية الإبصار، وغير هؤلاء كثير.
إن العالم اليوم –إلا من رحم الله- وكما قال فيلسوف الوعي (كن والبر) ذات مرة: "يعيش على القشور والسطح وفي الضحالة، بلا عمق ولا معنى". إن مهمة هذا الكتاب إثارة البحث عن أوجه المعنى في العالم الذي نعيش فيه، واستعادة الذاكرة التي ضاعت في تفاصيل الأشجار حتى عميت عن رؤية الغابة، كما يقول المثل الإنجليزي. لقد سمّى التطوري الملحد ريتشارد دوكينز كتابه الأخير (شمعة وجيزة في الظلام)، يحكي فيه سيرته الشخصية والعلمية، لعله "ينير" للآخرين جزءًا من حياتهم بقبسٍ من حياته التعيسة، وتالله إنّ نور الحقيقة لا يؤخذ من شمعة قلقة حائرة توشك أن تنطفئ عما قريب، وإنما من فلق الصباح ووهج الشمس وضوء القمر، وعجائب الخلق من الذرة إلى المجرة، من آيات الغاية ودلائل الحكمة في الآفاق والأنفس، من هذا كله ينسج المرء سيرته الذاتية مع الكون، ليشهد بنفسه ناموس الحق في علاقته بالوجود، مصداقًا لقول الحق: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [سورة الدخان: 38-39]
إن الحق الذي يقصده هذا الكتاب قديم، وقد غرف من بحره أئمة وعلماء وفلاسفة وشعراء، بما في ذلك أئمة الإسلام وعقلائهم؛ ومما يستجاد في هذا الشأن توجيه أبي عثمان الجاحظ حين قال: "وأنا أعيذ نفسي بالله أن أقول إلا له، وأعيذك بالله أن تسمع إلا له. وقد قال الله عز وجل "وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون"، فاحذر من أن تكون منهم، وممن ينظر إلى حكمة الله وهو لا يبصرها، وممن يبصرها بفتح العين واستماع الآذان؛ ولكن بالتوقف من القلب، والتثبت من العقل، وبتحفيظه وتمكينه من اليقين، والحجة الظاهرة. ولا يراها من يعرض عنها. وقد قال الله عز وجل: "ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون"، وقال: "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون"، ولو كانوا صمًّا بكمًا لا يعقلون، لما عيرهم بذلك، كما لم يعير من خلقه معتوهًا كيف لم يعقل، ومن خلقه أعمى كيف لم يبصر، وكما لم يلُم الدواب، ولم يعاقب السباع؛ لكنه سمى البصير المتعامي أعمى، والسميع المتصامم أصم، والعاقل المتجاهل جاهلًا. وقد قال الله عز وجل: "فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير". فانظر كما أمرك الله، وانظر من الجهة التي دلك عليها، وخذ ذلك بقوة".[5]
ختامًا، أحمد الله أولًا وآخرًا على خروج هذا العمل، وأسأل الله لي ولزملائي في براهين مترجمين ومراجعين ومنسقين، وللداعمين والمشاركين بقليل أو كثير، التوفيق والقبول والسداد.
د. عبدالله بن سعيد الشهري
رئيس مركز براهين سابقا
الهوامش:
[1] من تقريضه للأصل الإنجليزي على وجه غلافه الخلفي، 1998م، دار Free Press.
[2] Gould, S. J. (1990) Wonderful Life: The Burgess Shale and the Nature of History, p. 16, 154.
[3] ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان، مركز نماء، ص15.
[4] من تقريضه للأصل الإنجليزي على وجه غلافه الخلفي، 1998م، دار Free Press.
[5] الحيوان (4/362).