لماذا هذا الكتاب؟!
ينطلق وليام ديمبسكي في هذا الكتاب من حقيقة أن المادية متغلغلة في الثقافة العلمانية الغربية، ويبرهن بقوة على أن المادة ليست هي المكوّن الجوهري للواقع، بل المعلومات. ونفي الجملة الأولى لا يتضمن بالضرورة ثبوت الثانية، لذا فلم يحاول ديمبسكي حشد الردود على المادية، ولا تدعيم بديل قديم وهو المثالية، ولكن صب الاهتمام على تقديم المعلومات كبديل.
ومع ذلك، لم يمتنع ديمبسكي من الإشارة إلى أهم الانتقادات على المادية، وإبراز أهم التناقضات، والتعرض أيضا للمادية المنهجية كمبدأ تنظيمي بحثي. فمثلا، أورد أهم الانتقادات على المادية؛ عدم تماسكها المنطقي. وفي هذا قدم ديمبسكي بإيجاز الخلاف بين المثاليين (كجورج باركلي) والماديين (كديمقريطس) –تابع هذا التقديم في الفصل العاشر–، وبيّن كيف أن المادية تدمر نفسها بنفسها منطقيا. وفي إطار التناقضات المتعلقة مباشرة بحياة الإنسان، قدم ديمبسكي فصلا قيما عن حرية الإرادة وتصوره لها –في المعلومات– باعتبارها قدرة على تجاوز المادية، أما في إطار المادية –سواء كانت حتمية شاملة أو محددة احتماليا– فلا مجال لهذه القدرة، فما الإنسان على ذلك إلا كومة من الذرات.
أما الجزء الثبوتي، أو بديل المادية، فسار فيه ديمبسكي على النحو التالي –بصرف النظر عن ترتيب الفصول–: يعتبر ديمبسكي جوهر الطبيعة معلوماتي، فالطبيعة –بما في ذلك البشر[1]– تحقق بعض الوقائع دون أخرى من خلال إقصاء احتمالات وتحقيق أخرى، أي تبدأ بعدد أكبر ثم تصل إلى عدد أقل، ويناقش ديمبسكي رأسا ما إذا كانت الطبيعة في التصور المادي قادرة على خلق كل المعلومات التي نجدها فيها أم لا. فهو يتصور التصميم بمعنى شامل، فيبقى التصميم منسوبا إما ليد عمليات داروينية مادية أو لفعل خارجي/إلهي، صمم الطبيعة غائية، وهنا يمكن تصور معجزات الأنبياء كمعلومات جديدة أدخلها الله في بنية الطبيعة الغائية.
وهذا التصور الغائي للطبيعة لا يتناسب إلا مع كون الطبيعة معلوماتية، أي تتحرك من خلال تحقيق احتمالات نحو أهداف معينة[2]، فكيف يمكن للطبيعة تجاوز القوانين العادية التي تبحث بحثا أعمى لتصبح غائية؟ أو بصورة أخرى: هل يمكن للمادة أن تمدنا بهذه المعلومات؟ هل المادة نفسها شكلا من أشكال المعلومات؟ هنا يربط ديمبسكي بين الاحتمالات ونظرية المعرفة وفلسفة العلم، حيث سيعيد النظر في مشكلة الاستقراء بصورة احتمالية، لا نقصد هنا أن يحل مشكلة الاستقراء احتماليا، إنما نسخة مغايرة للاستقراء الكلاسيكي، ثم يخلص إلى حل فيه تصور جديد للصدفة جدير بالنظر. أما الفصول الأخيرة فهي تطبيقية على مشكلة المعلومات في نظرية التطور، وبيان أن العمليات الداروينية لا تخلق المعلومات إنما تعمل على معلومات موجودة سلفا، وكذلك توضيح لتصور خلق المعلومات باستعمال مخطط شانون وربطه بمفهوم الخلق بالكلمة في الأديان السماوية عموما والمسيحية خصوصا. وهذا ينقلنا للحديث عن موقف العلم من وجود الإله، وعن مدى ارتباط طرح ديمبسكي بالديانة المسيحية على وجه الخصوص.
العلم لا يثبت ولا ينفي وجود الإله؛ هذا هو موقف ديمبسكي وحركة التصميم وموقفنا أيضا. بل وهو الذي لا ينبغي أبدا القفز عليه، فالعلم التجريبي ينبغي أن يظل حبيسا للتجربة، ولا يتحول لمنهاج معرفي يعطي تصورًا لكل شيء ويثبت أو ينفي أطروحات بعيدة تماما عن دائرته، كأطروحة وجود الإله. وهذا ما صرح به كثيرًا ديمبسكي وغيره من منظري التصميم الذكي؛ فالعلم يثبت صحة التصميم والذكاء، والتصميم والذكاء يثبتان وجود مصمم ذكي، من هو المصمم الذكي؟ الإجابة أن هذا سؤال يقع خارج نطاق العلم. لكن هذا الكتاب ليس كتاب علم، كما هو واضح من عنوانه، بل هو هنا يرسم صورة ميتافيزيقية لما يجب أن يكون عليه العالم في ضوء علم المعلومات.
يعد هذا الكتاب خصوصا، ومشروع ديمبسكي في التصميم والمعلومات عموما، من أفضل الأطروحات التي تؤسس لتصور معرفي متوافق مع العلم والدين. وبالرغم من أن ديمبسكي مسيحي، ولكن إنتاجه في هذا المشروع، يتوقف عند التأسيس لمفهوم الإله الخالق؛ الأمر الذي يشترك فيه معظم الأديان السماوية. ومع ذلك فهو لا يمتنع عن محاولة التفكير في ربط استدلاله على الخالق بتصوره المسيحي للخالق، ولكن هو نفسه يرى أن هذا لا يستقيم له في هذا الموضع بسهولة، بل وهو مدرك تماما أن ذلك "سيكون مبالغةً بالنسبة لكثير من القراء"، وهو الحال فعلا بالنسبة للمسلمين، بل وربما لليهود أيضا. فالخالق في اليهودية والإسلام، هو الإله الواحد، ولكن الأمر في المسيحية يتطلب أكثر بكثير من مجرد التدليل الفلسفي على خلق وخالق، فلكي تثبت أن الخالق هو إله واحد مثلث الأقانيم، فأنت في حاجة إلى تجاوز معضلة أن هناك أصلا ما يسمى بالتوحيد الثالوثي! وهو أمر لن يستقيم إطلاقا، أو على حد تعبير بعض اللاهوتيين "لغز غير قابل للفهم"، ولا وسيلة لقبوله إلا بالتصديق والإيمان فقط.[3]
نأمل أن يرتقي هذا الكتاب بمستوى الطرح في القضايا المرتبطة بالعلم والدين في عالمنا العربي، وأن يدفع المفكرين والباحثين نحو جدية أكثر في العرض والتناول. ولعلنا أيضا نطمع في أن يغير هذا الكتاب خارطة التعامل مع الميتافيزيقا والميثودولوجيا المادية.
إدارة مركز براهين
[1] وهنا يتتبع ديمبسكي الفصل الفلسفي بين المادة والمعلومة منذ أرسطو، ويبين غموضه وكيف استخدمه الماديون لصالحهم، وهو نقاش يذكرنا بالنقاش الذي دار بين التهافتين، فتهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي قدم تصورا معينا للفاعل العاقل ووصف فاعليته لغويا، بينما رد ابن رشد بتصور أرسطي مخالف لطبيعة تصور الفاعل عند الغزالي.
[2] ومن أجل ذلك قدم ديمبسكي بعض الفصول عن نظرية المعلومات والاحتمالات تمهيدا لما يقول، فلا ينبغي القلق من صعوبة فصل أو فصلين من الكتاب، بل يمكن تجاوزهما بسهولة.
[3] A.W. Tozer, The Knowledge of the Holy, p17; Merrill F. Unger, The New Ungers Bible Dictionary, 2006, TRINITY.