لماذا هذا الكتاب؟!
لا شك أن الأفكار لها تبعات، لا أحد يجادل في ذلك. لكن، ما مدى مسؤولية المفكر عن تبعات فكرته؟ خاصة تلك التي طُورِت بعد مماته؟
هذا هو السؤال المركزي الذي شغل مؤلف هذا الكتاب، ودار بحثه كله لمحاولة الوصول إلى إجابة له. حلق وايكارت غربا وشرقا ليجمع شتات نطاق واسع من البرامج والمؤسسات والمفكرين الذين شكلوا الفكر الدارويني الاجتماعي والسياسي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في ألمانيا. وسار في طريق شاق في بحثه، والعديد من المصادر التي أخرجها في هذا الكتاب لم يسبقه إليها أحد، مما يجعل بحثه فريد في بابه، وضروري لكل من يريد أن يقرأ عن الداروينية الاجتماعية.
انطلق وايكارت في هذا البحث الجاد، ليشرح تأثيرات الداروينية الخطيرة والجذرية على الأخلاق. ويوضح كيف أن العديد من رواد البيولوجيا التطورية في ألمانيا وكذلك المفكرين الاجتماعيين، آمنوا أن الداروينية أطاحت بالأخلاق المسيحية واليهودية وحتى أخلاق التنوير، خاصة تلك المتعلقة بقدسية حق الإنسان في الحياة. العديد من هؤلاء آمنوا بنسبية الأخلاق، والأدهى من ذلك أنهم اتخذوا من مبدأ (البقاء للأصلح) التطوري مرجعية أعلى للأخلاق. خَلُص وايكارت في بحثه إلى أن الداروينية لعبت دورًا رئيسيا، ليس فقط في قيام اليوجينيا –تحسين النسل عن طريق التخلص من جينات الأعراق غير المرغوب فيها– ولكن أيضا في قيام اليوثنيچيا –القتل الرحيم–، ووأد الأطفال، والإجهاض، والإبادات العرقية.
مثلت تلك الأمور قواعد الإيمان لدى النازيين. وعلى عكس ما يشاع من أن منطلقات هتلر كانت عدمية، يثبت وايكارت أن مبادئه الأخلاقية كانت داروينيةً تمامًا.
كيف ذلك؟ وما علاقة نظرية بيولوجية بالفكر النازي؟ وهل الهولوكوست هو النتيجة الحتمية للداروينية؟ هذا الكتاب كله في بيان ذلك. لكن كما ختم المؤلف كتابه، نقول: "لم تنتج الداروينية وحدها الهولوكوست، لكن بدون الداروينية –خاصة تفرعاتها من داروينية اجتماعية وتوجهات التحسين المستقبلي للعرق– لم يكن لهتلر أو أتباعه النازيين الأسس العلمية الضرورية لإقناع أنفسهم وأعوانهم أن إحدى أعظم الفظائع المرتكبة في العالم كانت بالحقيقة محمودة أخلاقيا. لقد نجحت الداروينية، أو على الأقل بعض تأويلاتها الطبيعية، في قلب ميزان الأخلاق رأسًا على عقب".
نأمل أن يرتقي هذا الكتاب بمستوى الطرح في القضايا المرتبطة بالعلم والدين في عالمنا العربي، وأن يدفع الباحثين نحو جدية أكثر في العرض والتناول. ولعلنا نتخذ من الصرامة البحثية التي انتهجها المؤلف في هذا الكتاب مثالا يحتذى به، نحو طرح فكري أرقى.