لماذا هذا الكتاب؟!
يتصور معظم الناس أن العلم عقلاني وموضوعي ويقترب من الحقيقة، فهو عقلاني لأنه يقوم على الملاحظة والتجريب لا على الأساطير والموروثات الشعبية، يقوم على الحس لا على الخيال والانفعال. وموضوعي لأنه لا دخل للتحيزات والأهواء الشخصية والمعتقدات السابقة للباحث في التجريب، فالملاحظة هي الأمر الحاسم في العلم. ويقترب من الحقيقة لأن النظريات الأصدق في تفسير الواقع تحل محل النظريات الأقل صدقا، ومن ثم يتقدم العلم دائما نحو التصوير الأصدق للواقع.
لكن هذا التصور –أو الانطباع على وجه الدقة– غير صحيح. وهذا الكتاب الذي بين يدي القارئ لا يهدف فقط إلى هدم الفلسفة التي تبرر هذا التصور، فالبعض بالفعل قد أدرك سذاجة هذا التصور بعد أي قراءة عابرة لمقالات أو كتب عن فلسفة العلم، وإنما يهدف أيضا إلى نقد كل تفلسف حول العلم من حيث المبدأ، أي تفلسف يحاول تمييز العلم بأي خصلة من الخصال الثلاث (العقلانية والموضوعية والاقتراب من الصدق) عن أي نشاط بشري آخر. وهذا لا يعني أن العلم لا يتمتع بأي عقلانية أو موضوعية، لكن أي عقلانية وأي موضوعية؟ إن تحديد معنى العقلانية والموضوعية تحديدا صحيحا سيقودنا إلى فهم واقعي للعلم كأي ممارسة بشرية أخرى. لكن ما السبيل إلى ذلك؟
عرضنا المنهج الوصفي لمعالجة قضية "وجود الله" في كتاب "الإجماع الإنساني: المحددات ومعايير الاحتجاج"، ومن خلال تحليل ما تشترك فيه المجتمعات الإنسانية عبر العصور، والتدليل على أن المجتمع هو مسوغ المعرفة الإنسانية، توصلنا إلى أن ما يشترك في المجتمعات له قيمة معرفية معينة، لأن العقلانية اجتماعية في أصلها. هذه القيمة تصبح أعلى ما يمكن حينما تتعلق المعرفة الإنسانية بممارسة نفسية واجتماعية كالتدين، ومن ثم قلنا إن الدين من خصائص الإنسان الملازمة له. ثم استخدمنا المنهج الوصفي في كتابي "نقد الأخلاق التطورية: ريتشارد دوكينز نموذجا" و"الأخلاق العصبية: نقد اختزال علم الأعصاب المعرفي للأخلاق"، ونحن اليوم نستخدمه لمعالجة فلسفات العلم، أو النظر إلى تلك الفلسفات من منظور أوسع لنرى ما اختزلته تلك الفلسفات. ولأهدافنا لن نتعرض لمشاكل العلم الثانوية، أي التي تخص الصناعة العلمية نفسها، مثل هل يجب أن تكون القوانين سببية في الفيزياء؟ كيف نفصل منهجيا (لا معرفيا) بين العلم واللاعلم؟ وغير ذلك.
إن أي فلسفة علمية تقوم على نظرية معرفية، لذلك وجب علينا أن نقدم عرضا سريعا لأهم نظريات المعرفة من الفلاسفة اليونانيين حتى الآن، والأهمية تعود إلى مدى تعلق النظرية المعرفية هذه أو تلك بفلسفة العلم المعاصرة. وفي الفصل الثاني سنعالج سؤال انبثاق العلم التجريبي في القرن السادس عشر والسابع عشر من العدم، وهي مسألة تاريخية لكنها ذات أهمية شديدة لفلسفات العلم ولمنهجنا الوصفي. أما الفصل الثالث فهو عرض ونقد للقطبين المشهورين؛ الوضعية المنطقية، وكارل بوبر. لننتقل في الفصل الرابع إلى النصف الثاني من القرن العشرين، توماس كُون وما بعد توماس كُون. وفي الفصل الخامس نناقش مسألة واقعية الكيانات النظرية التي لا تقبل الملاحظة. ثم أخيرا في الفصل السادس نقدم ملامح منهجنا الوصفي ومن ثم ننظر به إلى تلك الفلسفات العلمية، وقبلها النظريات المعرفية التي أسستها، لنصل إلى بعض النتائج نرجوا أن تكون معالجة جديدة لفلسفة العلم.