لماذا هذا الكتاب؟!
لا شك أن ظاهرة الإلحاد بعد أحداث 11 سبتمبر تختلف اختلافا جوهريا عن الإلحاد القديم. ومن أهم ملامح هذا الاختلاف هو الدعوة، حيث أصبح الإلحاد دينا يدعى إليه بكافة الأسلحة الإعلامية والعلمية. وما يهمنا على وجه الخصوص هو السلاح العلمي، فقد أسيل مداد كثير لتوظيف العلم لخدمة المنهج الإلحادي الدعوي، وعرضت قضايا علمية معقدة عرضا شعبويا، بتأويل يتفق مع الإلحاد، لتصدير للناس تصور مغلوط عن العلم.
لم يعد الإلحاد خيارا كئيبا يضطر الإنسان العادي إليه بعد توهمه ضعف أدلة وجود الله، أو موقفا يتبناه فيلسوف شهير مع إقراره بالعدمية اللازمة لهذا الإلحاد، أو نقاشا فلسفيا عن علاقة الإلحاد بالحداثة، أو علميا عن طبيعة فعل الله إذا ما كانت نظرية التطور صحيحة، بل أصبح إلحادا مزيّنا يوعد بحياة سعيدة بأساس أخلاقي علمي، وذلك بعد الأبحاث المتواترة في مجال علم النفس التطوري وعلم الأخلاق العصبية، وكأن هذا الوعد تعويضا عن السطحية في العرض.
وعملي في هذا الكتاب هو نقد الأخلاق التطورية من حيث أصلها وتسويغها، وهذا أخص من البحث العام عن الأخلاق المستقلة عن الدين، فالبحث هنا يتعلق فقط بأحد جناحي الأخلاق الإلحادية، وهو التطوري. فهل نجح علم النفس التطوري حقا في تفسير أصل الأخلاق أو القيم؟ أو على الأقل، هل لديه الأساس النظري؟ وهل يمكن تسويغ أخلاقيات تطورية؟ هل لدوكينز أن يتحدث بملء فمه عن "وحشية الكتاب المقدس"؟ أو هل لسام هاريس أن ينكر النسبية الأخلاقية؟ أو لدينيت أن يدعو إلى "أخلاق عالمية"؟
المثال الأشهر على كل ما سبق هو كتاب "وهم الإله" لريتشارد دوكينز، فالكتاب دعَوي بكل وضوح، ويسخّر بعض القضايا العلمية والفلسفية المعقدة جازما بنتائجها لصالح دعوته الإلحادية. إلا أن المهم في هذا الكتاب –حيث أنه لا يخفى على ملحد أو مؤمن مطلع ضعف الجانب الفلسفي للكتاب– هو الجانب البيولوجي الأخلاقي، وهو تلخيص لكتاب دوكينز "الجين الأناني" الذي صدر في السبعينات وأحدث ضجة كبيرة وقتها. لذلك، سيكون التركيز في هذا الكتاب على نقد (الجين الأناني) باعتباره الأصل العلمي لأطروحة دوكينز الأخلاقية، وباعتباره الكتاب الذي رسم الهيكل العام لعلم النفس التطوري بعده.
يبدأ البحث بعرض ونقد للفكرتين الرئيسيتين للأخلاق التطورية عند دوكينز، وهما "الرؤية المتمحورة حول الجين" و"الكائن الآلة"، ثم نتبع ذلك بنقد تفسير دوكينز (ومعظم البيولوجيين) لصفة الإيثار عند الحيوان، في ضوء النقد الأصلي للفكرتين الرئيسيتين، ثم نقد تفسير دوكينز للإيثار الإنساني من خلال مفهوم "الميمات"، وفي النهاية ننتقد الأساس الفلسفي الذي يقوم عليه علم النفس التطوري والأخلاق التطورية، فيطول النقد كل أطروحة تطورية للأخلاق.
وما يهدف إليه هذا الكتاب في كلمة هو بيان أن "مشكلة وجود الخير" عصية على التبرير الإلحادي. وأرجو أن يكون هذا البحث بداية لنقد مجال علم النفس التطوري، الذي غفل عنه الباحثين في نقد الإلحاد الحديث في العالم العربي.