تمهيد
لم يُطبَع من هذا الكتاب الصغير من قبل سوى بعض النقاشات المستقاة من مقالتي "لماذا لن تزول فكرة الغرض"، التي ظهرت في مجلة الفلسفة (أكتوبر 2011، 545–63). وقد طُوّرت في الفصلين 5–7 هنا.
وينبثق باقي الكتاب ببساطة من حنقي المتزايد على ميل بعض العلماء من ذوي الكفاءة العالية حاليًا إلى أن يدَّعوا بوضوح وباسم العلم أنهم يعتقدون أن ذواتهم –وفي الواقع قرّاءهم– ليسوا موجودين؛ إذ الذوات على ما يبدو قد حلَّت محلها ترتيباتٌ من خلايا الدماغ.
أعتقد أنني أفهم لماذا يتفق الناس مع هذه القصة المثيرة. إنهم ببساطة يرونها كما لو كانت ركنًا ضروريا من أركان إيمانهم بالعلم: يرونها دفاعا عن العالَم المادي؛ وركيزةً حاسمة لليقين الذي نحتاجه بشدة في ظل الفوضى واسعة الانتشار اليوم. يبدو أيضا أنها تقدم بديلًا قويا للفكرة الأكثر إغراقا في الملذات، والمتمثلة في أن أفكارنا ومشاعرنا الخاصة هي في حقيقة الأمر مادة.
لكني لا أعتقد أن هذه القنبلة الانتحارية يمكن أن تعطينا يقيننا العلمي. إن ادعاء عدم الوجود ليس معقولا في حد ذاته، وكذلك الحجج التي تُستخدم في دعمه. وهذا الادعاء لا ينبثق من العلم في حقيقة الأمر. إنه ينبثق من تراث فلسفي ازدواجي قديم ليس له وزن الآن. ولا يستطيع هذا الإطار المحطَّم أن يقدم دعمًا حقيقيًّا للعلم اليوم. بل يستطيع فقط أن يؤذي سمعته.
لقد تلقيت مساعدة كبيرة لإنتاج هذه الأفكار من الزملاء والأصدقاء الذين شاركوني شكّي بشأن هذه الطريقة السريعة للخروج من مآزقنا. لا سيما الاقتراحات المفيدة التي أتت من إيان مجيلكريست (Iain McGilchrist)، وستيفن روز (Steven Rose)، وأندرو براون (Andrew Brown)، وإيان جراوند (Ian Ground)، وويللي تشارلتون (Willie Charlton)، و(كالمعتاد) من أبنائي الثلاثة، خصوصا ديفيد (David). إن غالب هؤلاء الأشخاص لم يكونوا مندهشين مثلي تماما عندما رأوا فكرة الذات تتوارى فجأة كما يتوارى الدخان أعلى المدخنة. فأي شخص شاهد ما آلت إليه خلال الأعوام الخمسين الماضية، سيرى ضمور هذه الفكرة برمتها تدريجيًّا، وتلاشيها على نحو متكرر خلف آلات شتى، وتفكيكها لتلائم شروط العديد من التخصصات، وكونها (بشكل أكثر صرامة) يتم تجاهلُها عن عمد من قِبَل الفلاسفة المحترفين الذين كانوا يحاولون القيام بدراستهم بطريقة موضوعية، وتقنية، وقريبة من العلم قدر الإمكان. إن إلغاء الذات مجرد نهاية طبيعية لتلك العملية. ولكننا ما زلنا بحاجةٍ ماسَّة إلى أن نفهم العملية بحد ذاتها، وأن نكتشف أي عالَمٍ ستتركه لمن ينجون منا من أثرها (على نحو مدهش نوعا ما). هذا ما حاولت أن أبحثه في هذا الكتاب.
من المحتمل أن هذه الحملة المشؤومة –هذا التباعد عن الخبرة المباشرة– التي استقبلت اسم "حديثة" منذ مائة عام مضت، قد تتراجع في ثقافتنا نوعا ما. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه بإمكاني أن آمل فقط أن أكون قادرة على مساعدتها في ذلك ولو بدرجة قليلة.
مقدمة
هل نفقد ذواتنا؟
يدور هذا الكتاب حول الفجوة الكبيرة القائمة بين الحس المشترك[1] والعقيدة العلمية اليوم، وبصورة مركزية حول فكرة أن العلم قد بيَّن أن ذواتنا الداخلية مجرد أوهام. بعبارة أكثر وضوحا؛ (يبدو) أننا غير موجودين.
عندما يصطدم شيء يُفتَرض أنه علميٌّ كهذا مع الحس المشترك، فإننا بطبيعة الحال نميل إلى افتراض أن الحس المشترك يجب أن يكون خاطئًا. فعلى سبيل المثال، نحن نعرف أن الحس المشترك كان خاطئًا حينما اعتاد على افتراض أن الأرض مُسطَّحة، أو أن النجوم كلها نقاط في سقف متصل، ونتفق مع الذين صححوا هذه الأفكار[2]. نعتقد أن الحقائق الجديدة حملت سلطتهم الخاصة، وأن العلم –في تلك الحالات– لابد فعلا أن يفوق الحس المشترك.
لكن ربما يبدو غريبًا أن نفترض أن الأمر يجب أن يكون كذلك دائما، أو حتى غالبا، أليس كذلك؟ فمثلا، عندما يخبرنا العلم أن الطاولات التي نعتقد أنها صلبة تتألف بوجه عام من مساحات فارغة، فإننا لا يتوجب علينا أن نتخلى عن رؤانا السابقة وأن نتوقف عن وضع أكوابنا عليها. إن الحس المشترك يمكن بسهولة أن يُوفِّق بين طريقتين مختلفتين للتفكير بشأن الطاولات. فقد اعتاد أن يدمج الرؤية الميكروسكوبية للأشياء في الرؤية الماكروسكوبية. وقد طوَّر نظاما مُصاحِبًا يمكنه بواسطته أن يرى كيف يربط بينهما عمومًا. وبهذه الطريقة، إما أن يندمج علم الأمس مع الحس المشترك[3]، وإما أن يُنسَى –إذا ثبت أنه خطأ–. فالجاذبية اليوم جزء من الحس المشترك ولا أحد يتحدث عن أفلاك التدوير[4].
في الحقيقة، يمكن للحس المشترك أن ينمو، وهو في الواقع ينمو دائمًا، فهو ليس صيغة جامدة لا تتغير وفي تعارض دائم مع العلم كما أشار لويس وولبرت (Lewis Wolpert) في كتابه الطبيعة غير الطبيعية للعلم (The Unnatural Nature of Science)، حيث كتب وولبرت "إنني أدافع دائما عن فكرة أنه إذا توافق شيء مع الحس المشترك فإنه لا يمكن أن يكون علما… فالطريقة التي يعمل بها الكون ليست هي الطريقة التي يعمل بها الحس المشترك؛ الاثنتان ليستا متطابقتين" (1992: 11).
لكن الطريقة التي يعمل بها الكون ليست مقصورة على الأشياء التي تخبرنا عنها العلوم. فهذا الكون له عدد ضخم من الأوجه. فهو يشمل ذواتنا وإدراكاتنا الحسية المباشرة. ويشمل أيضا رؤى الحياة التي بُنيت خلال دهور من خبرة الإنسان. يتجه ذلك التاريخ اليوم إلى بناء خلفية الحس المشترك، والتي ليست صيغة ثابتة إذا ما قورنت بعلم معيَّن، ولكنها شيء أشبه بامتداد ضخم من مساحة عقلية خضراء مملوءة بأنواع مختلفة من أشكال الحياة النباتية التي تحافظ على النمو لتلائم ما يحدث حولها.
كذلك فالعلم بالطبع ليس (كما يشير وولبرت) كائنًا ساكنًا مستقلا في حد ذاته. إنه أحد النباتات المنتجة التي امتدت جذورها في تلك المساحة الخضراء وقد انتشرت لتغير أجزاءً هائلة من المشهد الإنساني. وقد نما العلم من التربة الاجتماعية الموجودة مُسبقًا مثل التخصصات الفكرية الأخرى –التاريخ، والشعر، والموسيقى، والرياضيات، والبقيّة–، وهو يعتمد عليها تماما. فهو ثقافة فرعية مثلها.
لابد للعلم أن يبدأ من البيانات التي يدركها البشر بشكل طبيعي، وأن يطوِّر هذه البيانات بالطرق التي تلائم العقل البشري. وبالتالي، إذا ادعى أناس أن العلم قد اكتشف شيئا يناقض الإدراكات الحسية المباشرة للإنسان وتلك الأنماط الإنسانية الأساسية[5] –كما يحدث الآن بشأن الذات– فإن هؤلاء الأشخاص يجب أن يكونوا مخطئين. وهذا ليس معارضة حول حقيقة خارجية مثل شكل الأرض. بل حول ما يمكن أن يُعقل في السياق الإنساني على الإطلاق.
ومن ثم، فالنقطة التي بدأنا منها، أن الحس المشترك يجب أن يفسح مجالا للحقائق العلمية أحيانا، تحتاج قليلا من التعقيد. فالاقتراحات الجديدة يجب أن تُقبل ولكن فقط إذا كان يُمكن فهمها بالطرق التي تتلائم مع ما هو أساسي في الرؤية الإنسانية العامة. وإذا لم يمكن أن يحدث هذا فعلينا أن نَشُكَّ في وجود شيء خاطئ. والادعاءات لا يمكن بالطبع أن تصبح علمية لمجرد أن علماء معيَّنين يسردونها. فالعلماء في النهاية يمكن أن يخطئوا كأي شخص آخر. والعلم مع الأسف ليس متألفًا من حقائق جاهزة. فالذين يصوغون تلك الحقائق، لابد أن يستخدموا افتراضات: أي أنماطًا من التوقع، ويختارون بياناتهم، وينظمونها، ويشكلونها، ويصنفونها من خلالها، حيث إنها قد تكون مشوشة في البداية[6].
مشكلة الافتراضات المسبقة
عادة ما نعتبر هذه الأنماط مسَلَّماتٍ لأنها تكمن في فكرنا بعمق، بعيدا عن الوعي لدرجة أنه قد يكون من الصعب حتى أن يلحظها. إن التنقيب عنها وبلورتها هو عمل الفلسفة الذي يجعلها في الغالب أكثر وضوحًا نوعا ما. ولكن حتى عندما يُنقَّب عنها فستبقى غامضة غالبا ومن المؤكد أنها ليست موثوقة على نحو حتمي. إنها ليست حقائق أبدية. فقد صيغت جزئيًّا من الثقافة المحيطة التي تتغير باستمرار. ويمكن أن تتغير معها كما تتغير التيارات المائية في عمق الأرض مع تغيرات الصفائح التكتونية حولها.
في الواقع، إنها تتغير مثل هذا التغير طوال الوقت. وربما أصبحت هذه التغيرات مبهمة بسبب تسميتها "نماذج paradigms". فهذا الاسم قد يشير إلى شيءٍ ممل ودائم، إلى تنظيم يبقى معنا لمدة قرن أو ما شابه ذلك. ولكن كما يعلم قاطنو اليونان وتركيا، فالصفائح التكتونية أكثر نشاطًا من ذلك بكثير، ولذلك المناخات الثقافية. فالتغيرات ليست مجرد إرساء محدد للمعتقدات ولكنها سلوك، وطريقة للاستجابة للعالم، طريقة تتشكل دائما بواسطة حشد من التأثيرات وتؤثر على كل شيء نفعله.
يُعبَّر عن هذه المواقف في الأساطير المتغيرة، التي ليست أكاذيب، ولكنها رؤى متخيَّلة، أو صور توضح كيفية رؤيتنا للعالم حولنا في شكل رسوم بيانية. (لقد شرحت فهمي لهذه الجملة المفيدة من قبلُ في كتاب "الأساطير التي نعيش بها The Myths We Live By" 2003، لذلك لا داعي أن أفعل ذلك هنا). إن الأسطورة التي أريد أن ألفت الانتباه إليها الآن بشكل خاص، هي تلك التي تعتقد أن العلم –العلم الطبيعي– له دور مركزي غريب في حياتنا.
هذه الأسطورة تصوّر عالمنا كأنه كتلة ضخمة من الأشياء المادية التي تُلاحَظ من مسافة هائلة من قِبَل مُلاحِظ مجهول من خلال نَظْم ضخم من التليسكوبات. ليس من قبيل المصادفة أن هذا الملاحِظ نفسه مجهول، وفي الحقيقة غير مرئي، لأنه ليس شيئا محددًّا على الإطلاق. فهو ببساطة –مثل التليسكوبات– جزء من الأدوات الضرورية لملاحظة وتسجيل المجال اللامتناهي من الحقائق. إن عملية الملاحظة والتسجيل برمتها تسمى "العلم"، ويُنظَر إليها بوصفها تشكل غايةً مركزية من حياة الإنسان. فعلى حد قول ستيفن واينبرج (Steven Weinberg): "الجهد المبذول لفهم الكون هو أحد الأشياء القليلة التي ترفع حياة الإنسان قليلا فوق مستوى المهزلة، وتعطيها بعض جمال المآسي التراجيدية" (1977: 155). باختصار، هو أحد الأشياء القيِّمة في الحياة البشرية.
ما هي الأشياء الأخرى؟ لم يقل. وبالمثل، عندما وجد واينبرج أنه من الصعب إقناع رفاقه الأمريكيين أن يدفعوا لأجل مصادم فائق ذي توصيلية فائقة يمكن أن يفوق مصادم الهادرونات الأوروبي الكبير، ناشدهم بضرورة بناء مثل هذه الأبنية التي تعتبر "كاتدرائيات عصرنا". قائلًا أننا لا يجب أن نتخلف عن تجهيزها مثل أسلافنا في القرون الوسطى.
إنه لم يشرح أي طائفة تريد تلك الكاتدرائيات أو أي معبود[7] وجِدت لعبادته. والمشكلة هنا ليست فقط أن قليلا من الناس يفهمون هذا النوع من الفيزياء على الإطلاق. إذا كانت القصة التي ينبغي أن نبحثها عن لاواقعية إدراكنا صحيحة، فحتى أولئك القليلون لا يمكن أن يريدوها لأنهم لا يمكن أن يريدوا أي شيء أساسًا. فعلى حد قول فرانسيس كريك (Francis Crick): "أنت، بأفراحك وأتراحك، وذكرياتك وطموحاتك، وشعورك بهويتك الشخصية وإرادتك الحرة، ليس ذلك كله في الحقيقة سوى سلوكياتِ تجمعٍ هائل من الخلايا العصبية والجزيئات المصاحبة لها" Crick 1994: 3)). ومن ثم فإنه لا أحد على وجه التحقيق يحتاج تلك المواضع المقدسة أو العبادة التي تؤدَّى فيها. بيد أن الإقبال المبجل العميق عليها ما زال قائمًا.
ما هي العلموية؟
هذه الصورة هي الرؤية الكونية التي تدعى العلموية أحيانا، هي العقيدة القوية للغاية كما سنرى والتي لها كثير من الجذور الميتافيزيقية والدينية. إنها لا تتمثل فعليا في التبجيل المفرط للعلم. ففي واقع الأمر، ربما لا يمكننا أبدا أن نشعر بتبجيل زائد عن اللازم نحو العلم، أو نحو أي فرع من المعرفة. فالمعرفة رائعة في الحقيقة وينبغي أن تُبجَّل. وخطأ العلموية لا يكمن في الثناء المبالغ فيه على صورة منها، ولكن في قطع هذه الصورة عن بقيّة التفكير، في معاملتها في كثير من الأحيان باعتبارها قد نحَّت الباقي جانبًا.
إن العلموية تمجد فكرة العلم ذاتها، دافعةً الناس إلى تركيز اهتمامهم على الافتراضات التي تبدو لهم علمية خلال سنوات تكوينهم. وهذا يمنعهم من رؤية الحقائق المقابلة التي لوحظت مؤخرا جدا، مع أنها قد تكون ساطعة. إن المثال الرئيس على ذلك في الحاضر هو رفض الناس –على نطاق واسع، خصوصا في الولايات المتحدة– أن يعترفوا بخطورة التغير المناخي[8]. ويستمر هذا الرفض بقوة بين أنياب الرأي العلمي ذي الكفاءة اليوم بطريقة توضح مدى قوة جذوره الأيديولوجية. إنه بالطبع مدعوم أيضا بكسل الناس الطبيعي وبصناعات الوقود التي لا ترغب في التغيير[9]. ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك فيما يتعلق بهذا الرفض. فالأيديولوجيا التي تجعل من الصعب علينا جدا أن نفهم أن أي شيء خطأ هنا –العقيدة التي تخبرنا أن الجنس البشري لا يمكن إلحاق الضرر به– هي مجموعة من الافتراضات القديمة والعميقة التي ما زالت تُرى باعتبارها علمية[10]، ولكنها تكمن في تفكيرنا بعمق لدرجة أننا لا نميّزها بسهولة. إن هذه الافتراضات تُولِّد علمًا سيئًا، وسوف نحاول أن نسبر غورها في هذا الكتاب.
دعونا نبدأ بدراسة السبب في أن محاولة تمجيد العلم لا يمكن أن تتم وحدها. هذا لأن الفكر الإنساني يعمل كوحدة واحدة. إنه محيطٌ حيوي، أو بيئةٌ هائلة ومعقدة، تشمل الحس المشترك، ولكن لا تقتصر عليه. فالعلم بحد ذاته ليس مجالًا واحدًا بالطبع، بل هو مساحة كبيرة من أشجار كثيفة تضم كثيرًا من العلوم، مساحةٌ تندمج مع ما حولها. تختلف تلك العلوم من الفيزياء إلى الأنثروبولوجيا وكلها أطلِقت من قِبَل المشكلات الآتية من المساحات خارجها، مثل الفلسفة والتاريخ. فالبيولوجيا مثلا يجب أن تتعامل مع المشكلات الفلسفية حول مفهوم الحياة وأيضا مع المشكلات التاريخية الهائلة حول التطور الذي تستخدم الطرق التاريخية وليس الفيزيائية لأجله. علاوة على ذلك، فإن تاريخ العلم بحد ذاته –كما سنرى– مفيد إلى أبعد الحدود، مما يسمح لنا أن نفهم الأشياء المهمة حوله والتي كانت ستصبح غامضة لولا ذلك.
ومن ثم فالعلم الطبيعي ليس بطلا أسمى منفصلًا ومتفوقًا على التاريخ أو الفلسفة. فهو لا يملك حدًّا خاصًّا للحقيقة. إنه مجال مهم للغاية من الدراسات بموضوعاته المميزة، وهو لا يحتاج التملق له بافتراض أنه كُلِّي. فكل العلوم لها أنواع مختلفة من الوظائف والتي يجب أن تؤدَّى معًا. ولكن هذا يقودنا – كما ذُكر للتوِّ – إلى قضية أكثر إثارة: لماذا إذَن هذا الفرع الخاص مهم بشكل استثنائي جدا؟ لماذا يستحق أن يكون كاتيدرائيات إذا كانت الفروع الأخرى لا تستحق؟ في هذا العالم الخالي من الذوات الواعية، لأجل مَن اكتسب تلك القيمة؟ من الذي يريد ويتقبل ويقدِّر ويستهلك كل هذه المعلومات إن جاز التعبير؟ حياةُ مَن التي يُفترض أن تتغير؟
إن أنبياء العلموية لا يخبروننا عن هذا. فالعالم الواقعي بالنسبة لهم يتكون بوضوح من أشياء فقط؛ ولا يشمل أي ذوات. والفكرة الرئيسة للملاحِظ ربما تكون مجرد –كما أشرنا في حالة الظواهر الكوانتية– طريقة اختزالية للإشارة إلى التليسكوبات والتسجيل. في الواقع، هذا هو التفكير الذي يقود إلى الاستنتاج الجامح أننا بحد ذاتنا لسنا موجودين.
إن استيعاب هذا الموقف ليس سهلا لأنه جديد بالفعل. فحتى وقت قريب جدا كانت الادعاءات الجديدة حول أولوية فرع خاص تجري داخل سياق مألوف. كان من الضروري أن تكون متعلقة بادعاءات مشابهة حول أنشطة إنسانية أخرى مثل الحب، والدين، والسياسة، والرياضة، والاستكشاف والفنون مثلا. وكان من الضروري أن توضع في مكان ما على خريطة مألوفة من الحياة الاجتماعية. ربما كانت في واقع الأمر على وشك أن تغير هذه الخريطة بافتراض ميزان جديد، لكنها كانت تحتاجها كبداية لتفسير ادعاءاتها. وكان من الضروري أن يُلاحَظ المدَّعون المحتملون الآخرون.
ومع ذلك، يميل العلم اليوم إلى أن يكون ممجدا بمنأى عن غيره، كما لو كانت أي محاولة لربطه بأنشطة إنسانية قيّمة أخرى ليست علمية. وهكذا فالخريطة المألوفة المتخيلة للقيم، إلى جانب المشاعر الإنسانية التي ولَّدتها –المخاوف والأماني الإنسانية التي تشكّل لغتنا حول ما هو مهم– تتلاشى ببساطة. وبلا هذه المجموعة من البدائل، لا يعني المدح ولا الذم شيئا وتتبخر الفكرة الكلية للأهمية الخاصة.
وبالتالي فهذه الأسطورة ليست مفيدة كثيرا. وسوف أناقش في هذا الكتاب تاريخها، والحجج التي تستخدم في دعمها، ومدى المشكلات الواقعية التي تنتج منها. وبالطبع سوف ألقي نظرة على الحجج المعتبرة التي جعلت الناس يفكرون بمثل هذه الطريقة. لكنني متلهفة لأشير بدايةً إلى أن هذه الفكرة المتمثلة في عدم وجودنا أسطورةٌ، وليست اكتشافا علميا صلبًا. وأنها رؤية متخيلة مفترضة حديثا، وواحدةٌ من بين الطرق الاختيارية لتصور العالم. وهي حقًّا غير معقولة.
ربما يكون من الصعب استيعاب هذا لأنها (كما سنرى) طُرحت في الوقت الحاضر من قِبَل علماء حقيقيين: من قِبَل أناس يحملون شهادات دكتوراة خاصة ويعملون في المختبرات، وبعضهم متميزون جدا في واقع الأمر. وهذا يوضح أن التعليم العلمي مع الأسف أصبح في الآونة الأخيرة ضيّقًا جدا؛ فهو لا يوجه انتباه الناس بنصف ما يكفي إلى فهم معنى ما يقولونه، بخصوص الاختلاف بين طرقنا المتعددة في التفكير. ويندر أن يُعلِّمهم ملاحظة تلك الافتراضات العميقة التي ذكرتها للتو: الافتراضات المسبقة التي يعتبرونها مُسلَّماتٍ.
لم يكن هذا الأمر دومًا على ذلك النحو. فحتى جيل نيلز بور (Niels Bohr) وألبرت آينشتاين (Albert Einstein)، كان العلماء الجادون دائما يمتلكون الخلفية الفلسفية، وقد درسوا التشابكات المفاهيمية التي انطوت عليها نظرياتهم فعلا (كان توماس هنري هكسلي (T. H. Huxley) حريصا على فعل هذا خصوصا، وكذلك كان جون هولدين (J. B. S. Haldane)). لقد عرف بور وآينشتاين أنفسهما بوضوح نقاشات كانط للذاتية والموضوعية واستخدماها في مقترحاتهما. وبعد زمنهما بفترة وجيزة، جنّد كلا التخصصين[11] أنفسهما وضيَّقا حدودهما مع ذلك، خالصَين إلى اعتبار أن ما يخرج عنهما لا يَهمُّهما.
وقد قاد هذا بعض الفلاسفة مثل دانيال دينيت، ضمن نتائج سيئة أخرى، إلى أن يأخذوا العقائد المناهضة للذات التي سنناقشها في هذا الكتاب على محمل الجد بافتراض أنها علمية. لم أتتبع نقاشاتهم هنا لأنه رغم كونهم أضافوا فيضًا من حدة الذهن، إلا أنهم –في رؤيتي– لم يغيروا القضية المركزية، التي تهتم بالافتراضات المسبقة الأساسية التي نعيش بها. إن الصياغة الجلية للعلماء لصيقة بهذه الافتراضات، ولذلك فإني عادة ما أركز عليها.
إن هذا الكتاب دائري بدلا من أن يكون خطيّا. فهو يدور حول موضوعه كله. لأن ظاهرة قتل الذات أو تدمير الروح تطرح أنواعًا مختلفة وكثيرة جدا من المشكلات، لقد حاولت أن أسبر غورها من عدة زوايا مختلفة.
وهكذا فإنني، بالإضافة إلى بحث مواقفنا الحالية تجاه الأفراد –بما في ذلك ذواتنا– وخصوصا تجاه الطرق التي يبدو أن هؤلاء الأفراد ينقسمون من خلالها، أوليت اهتمامًا كبيرا إلى مصادر هذه المواقف: إلى العادات العميقة والدائمة التي نبعت منها. وفي غضون ذلك، قفزت مرارًا وتكرارًا بين الماضي والحاضر، ويمكنني فقط أن آمُل أني لم أجعل تلك العملية مربكة جدا.
يمكن للقراء الذين لا يطيقون التاريخ أن يتخطوا الفصل الثالث والثاني عشر على الرحب. مع أن فعل ذلك قد يحرمهم من كثير من المتعة، ومن بعض الأفكار المتعلقة بالوقت الحاضر.
[1] الحس المشترك أو الفطرة (بالمعنى الفلسفي وليس الديني) أو الموقف التلقائي أو موقف الإنسان العادي، هي مسميات مختلفة للأفكار التي يشترك فيها كافة البشر ولا يمكن إنكارها. (عائشة)
[2] هناك تخبط واضح في الفلسفة لما يعنيه مفهوم الحس المشترك، وقد أجاد الباحث رضا زيدان في كتابه الإجماع الإنساني: المحددات ومعايير الاحتجاج (مركز براهين 2017) في فك هذا التخبط ووضع المعيار الذي يزيل اللبس عن المفهوم، يقول: "المجتمع هو المسوغ للمعنى والمحدد للصحيح واليقيني، واتفاق المجتمعات البشرية هو أقصى درجات الصحة إذا كان شرطًا لقيام لعبة الجماعة البشرية، فوجود العالم الخارجي بالمعنى الذي يقول به الإنسان العادي شرط أساسي لقيام لغة، لأن الاستبطان قفز في الظلام، فما الحال إذا لم يكن هناك نورًا ولا ظلامًا أصلًا... وشروط اللعبة الأساسية حالة خاصة من الموقف التلقائي، فليس كل موقف تلقائي معتبر به، وبالتالي لا يعترض علينا باعتقاد أن الأرض مسطحة على أنه موقف تلقائي، فهو وإن سلمنا أنه موقف تلقائي -فليس هناك شبه إجماع في ذلك بل وجدت حضارات سابقة تكلمت عن كروية الأرض- إلا أنه ليس شرطًا في اللعبة مطلقًا ولا يعبر أصلًا عن حاجة اجتماعية ونفسية". ص56-57 ويقول أيضا: "وبذلك يجب أن يتحقق في الفطرة الشرطان التاليان: 1- أن تكون شرطًا للعبة الجماعة البشرية. 2- أن تعبر عن حاجة اجتماعية ونفسية. فالذي لم يصب فيه جون سيرل أنه تنبى المفهوم التلقائي بشكل عام، ولم يفرق بين المفهوم التلقائي الناشئ عن طبيعة بشرية فطرية والمفهوم التلقائي الناشئ عن أغلبية مجتمعية عادية، كما في اعتقاد الأرض المسطحة. فالاعتقاد الأخير ستقبله أغلب المجتمعات في وقت معين لا محالة، فلو أنك أسقطت مجموعات بشرية من السماء في أماكن مختلفة بنفس لغتنا فسيعتقدون بأن الأرض مسطحة بسبب غلبة الحاجة النفسية والاجتماعية المتمثلة في مصالحهم وممارسة نشاطاتهم على أرض مسطحة، وسينشأ موقف تلقائي متسرع أو متحيز لمصلحة معينة". ص59-60. وفي البحث تفصيل أوسع لمعالجة فلسفية دقيقة للمسألة، فيرجى مراجعته. (عائشة)
[3] بالرغم من تسليم الكاتبة لإمكانية أن يصحح العلم بعض المفاهيم المشتركة بين البشر (التعليق السابق)، ولكن إشارتها لضرورة تقويض هذا التصحيح بسبب طبيعة الحس المشترك رائعة. (عائشة).
[4] نظام فلك التدوير هو جزء من النظام الهندسي الذي قدمه النموذج البطليموسي لتفسير حركة الكواكب، انظر تاريخ علم الفلك القديم والكلاسيكي، جان بيار فردي، ط. المنظمة العربية للترجمة، ص 60 وما بعدها. (المترجمة)
[5] هذه العبارة قريبة مما أشار إليه رضا زيدان في الإجماع الإنساني؛ الشرط الضروري للعبة. فلا يمكنك أن تبدأ بممارسة نشاط عقلي (تجربة علمية) ثم تقول إنك توصلت لعدم وجود عقلك! لا يمكنك أن تبدأ التجربة بإدراكك لوجود العالم الخارجي، ثم تقول إن نتيجة التجربة هي أن العالم الخارجي وهم (تبعا لأحد التأويلات المتطرفة لمدرسة كوبنهاجن في فيزياء الكوانتم)! قبول مثل هذه النتائج –التي من المفترض أنها علمية– أشبه بأن تقبل هدم البيت الذي تقف فوق سطحه، ثم تدعي أنك ستظل على السطح. (عائشة)
[6] فيلسوف اللغة والعقل بيتر هاكر (P. M. S. Hacker) يوضح هذه الفكرة بعبارة أوضح: "علماء الأعصاب مهتمين في الأساس بالسعي وراء الأسئلة التجريبية، والتي هي أساسا قابلة للاختبار عن طريق التجارب، ويمكن تفنيدها أو تأكيدها. السعي وراء تلك التجارب يفترض مسبقا إطارا مفاهيميا، تصور لما تعنيه مصطلحات مثل؛ العقل، الإرادة، الإدراك، الذاكرة، الخيال وهكذا. هذا الإطار المفاهيمي الذي يفترض مسبقا، إن كان الغموض يكتنفه، فالغموض سيتسرب إلى تصميم التجارب، وإلى تفسير التجارب". مقطع مترجم على قناة (مركز براهين) على اليوتيوب https://youtu.be/Bv5ql-KKITI (عائشة)
[7] للتوضيح، ستيفن واينبرج فيزيائي ملحد. (عائشة)
[8] التغير المناخي Climate Change أو الاحتباس الحراري العالمي Global warming هو ازدياد درجة الحرارة السطحية المتوسطة في العالم مع زيادة كمية ثاني أكسيد الكربون وبعض الغازات الأخرى في الجو. وهذا المثال على العلموية غير موفق إطلاقا. فالمقصود من المثال أن الناس تلمس التغير المناخي بأنفسها، ومع ذلك لا يريدون الاعتراف بخطورته لعدم وجود أدلة علمية عليه. لكن الواقع مختلف تماما عن ذلك، فالذين يدعمون فكرة خطورة التغير المناخي وضرورة مواجهة الاحتباس الحراري، ينطلقون من ادعاءات علمية –بغض النظر عن مدى صحتها–، والذين ينكرونه –وإن كان بعضهم يرتكز على ادعاءات علمية– لهم أسبابهم المتنوعة في ذلك، والتي وإن كان العلم أحدها، لكنه ليس مركزها. (عائشة)
[9] هذه أيضا أحد الادعاءات الشهيرة في هذا الملف، وبالرغم من أنه لا أحد ينكر أن لشركات صناعة الوقود دور في إنكار التغير المناخي، لكن هناك إفراط على الجانب الآخر في اتهام كل مشكك في التغير المناخي أنه مدعوم من تلك الشركات. يقول ويزلي سميث في كتابه (الحرب على الإنسان): "ليس هناك خلاف على أن مستويات ثاني أكسيد الكربون قد ازدادت في المئة سنة الماضية، وأن هناك ارتفاع في درجات الحرارة في العقود الأخيرة. فهل معنى ذلك أن هذا كان سببا لذاك؟ ربما لا. فعلى الرغم من الزيادة المطردة والمستمرة في مستويات الكربون، لم يكن هناك زيادة كبيرة إحصائيًا لدرجات الحرارة فيما يقرب من العشرين عاما الماضية.(1) كما أننا لا نعرف على وجه الدقة أي جزء تلعبه الدورات الشمسية في هذا الأمر برمته، ناهيك عن الغطاء السحابي، تيارات المحيطات، إلخ. يدار المناخ بنظام من التعقيد لا يمكن تخيله، وهذا يتجاوز قدرتنا على الفهم الكامل له في الوقت الراهن. كما أنني لاحظت أيضًا أن معظم النماذج المناخية المولدة حاسوبيًا التي تتوقع ارتفاع درجات الحرارة أثبتت عدم صلاحياتها. وعلاوة على ذلك، لقد شهدنا تغيرات حادة للحرارة في تاريخ الأرض –بالطبع في الأزمنة المسجلة– لم يكن للإنسان دخل بها. ولست مقتنعا حتى أننا نواجه هذه الأزمة المناخية الرهيبة التي تدفعنا للقول بأننا "نقتل الكوكب"، أعتقد أن ذلك يجعلني قليلا في معسكر المشككين. لكن أهدافي هنا لا علاقة لها بذلك". نعم، فبغض النظر عن من الصحيح من طرفي المناظرة، لكن المهم هو أن الاحتباس الحراري تحول لهيستريا، وفي الفصل الثالث من كتابه، يوضح سميث مدى تعمق هذه الهيستريا. الكتاب من إصدارات مركز براهين 2018.
(1) Gerald Traufetter, “Stagnating Temperatures: Climatologists Baffled by Global Warming Time-Out,” Spiegel Online, November 19, 2009, http://www.spiegel.de-/international/world/stagnatingtemperatures-climatologists-baffled-by-global-warming-timeout-a-662092-2.html.
[10] وهذا أيضا مخالف للواقع، فالذي يُرى حاليا على أنه علمي هو العكس تماما، يقول ويزلي سميث:
"في عام 2011، حُذِرنا أن لدينا عشر سنوات فقط لإنقاذ الكوكب! حذرت هيئة الأرصاد الجوية من أن "العالم أمامه عشرة سنوات فقط للسيطرة على معدل انبعاثات الغازات التي تزيد من حدة الاحتباس الحراري، قبل أن تصبح الأثار المترتبة لا يمكن الرجوع فيها"(1) لكن نفس التحذير كنا قد سمعناه من قبل في عام 2005: "الاحتباس الحراري العالمي يسير إلى نقطة اللاعودة. بالجفاف واسع الانتشار، انخفاض المحاصيل، والنتيجة المرجحة نقص المياه، وفقًا لتقرير دولي... العد التنازلي لكارثة تغير المناخ صرح به فريق عمل مكون من سياسيون رفيعوا المستوي ورجال أعمال وأكاديميين. خلال 10 سنوات أو أقل، تنبؤا باحتمالية الوصول لنقطة اللاعودة الكارثية".(2) يا للهول! بعد ذلك كان هناك حكاية أخرى عام 2009 تذكر أن رئيس وكالة ناسا (جيمس هانسن James Hansen) يعتقد أن لدينا أربعة سنوات فقط؛ حتى عام 2014 مثلا!(3) لدينا 4 سنوات فقط!!! في عام 2006 وافق آل جور فرضية العشر سنوات الباقية. وحذر أيضا تقرير من عام 2007 أن أمامنا حتى 2015 فقط. يتعين على هؤلاء الأشخاص فهم وتوضيح قصصهم تلك! ما المغذي من القصة؟ في هستيريا الاحتباس الحراري، هناك دائمًا أزمة تلوح في الافق تتطلب منا التخلي عن حريتنا".
والشاهد هو أن الاحتباس الحراري هو الذي من تبعات العلموية، وافتراض أن الجنس البشري سيتدمر تماما ونهائيا وفي غضون سنوات قليلة، هو أيضا من تبعات العلموية.
(1) Louise Gray, “Copenhagen climate change conference: world ‘has 10 years to reverse trends,’” The Telegraph, December 9, 2009, https://www.telegraph.co.uk-/news/earth/copenhagen-climatechange-confe/6770111/Copenhagen-climate-changecon-ference-world-has-10-years-to-reverse-trends.html.
(2) “Global warming a time bomb ticking away,” Daily Times, January 25, 2005, http://web.archive.org/web/20050408181042/http://www.dailytimes.com.pk/default.asp?page=story_25-1-2005_pg7_49.
(3) Robin Mckie, “President ‘has four years to save Earth’,” The Guardian, January 17, 2009, http://www.theguardian.com/environment/2009/jan/18/jimhansen-obama.
[11] تقصد الفيزياء والبيولوجيا. (المترجمة)