لماذا هذا الكتاب؟!
لا يخفى على متتبع للمشهد العلمي في السنوات الأخيرة التبجيلُ المتزايد الذي يحظى به العلم التجريبي، تزامنا مع التقدم التقني الهائل الذي حققه العلم في حياة الناس، ولا شك أن العلم يستحق التبجيل فعلا، لكن الإشكال يكمن في اتخاذ العلم كعقيدة بدلا من اعتباره نشاطا بشريا مهما، أو اتخاذه كرؤية للعالم تعتبره المؤسس الأوحد للحقائق التي تتعلق بالفكر الإنساني. ولا شك أن الفكر الإنساني أشمل من العلم التجريبي، فهو يحويه ولا يقتصر عليه. ولذلك كانت الثقة التامة والمنقطعة النظير التي تضفيها كلمة "العلم" في قناعات بعض الناس على كل ما يُنسَب إليها مهما تعارض مع باقي جوانب الفكر الإنساني في حاجة إلى إعادة نظر. فالعلم ليس متعاليا عليها بامتياز يمنحه القداسة، أو يُعفِيه من المراجعة، بل إن طبيعة العلم تتنافى مع هذا المفهوم.
وانطلاقا من هذه الفكرة ألّفت الفيلسوفة البريطانية ماري ميدجلي هذا الكتاب الصغير، مدفوعة بادعاء أثاره بعض المنتسبين للعلم –والذين يحظون بالثقة والتبجيل جراء هذا الانتساب– بأن الذات الإنسانية ليس لها وجود حقيقي، وأنه قد حلَّت محلها ترتيباتٌ من خلايا الدماغ. لتبيّن أن الفكرة لا تصير علميَّة بمجرد الادعاء، وأن العلماء يمكن أن يخطئوا كغيرهم من الناس، ولتكشف على مدار الكتاب عن الجذور التي انبثقت منها هذه المقالة، ومدى خطورتها على كافة جوانب الفكر الإنساني. ثم لتختم عملها بعد رحلة مثيرة قضتها في التنقل الناقد بين موضوعات معرفية شتى بالتأكيد على أننا "ما زلنا هنا".
يمكن أن يقال أن من أهم مزايا هذا الكتاب أنه تناول فكرته المركزية من زوايا عديدة تناسب تعدد القضايا التي تتعلق بها، فاكتسى حُلّة التنوع الموضوعي؛ إذ جاء في اثني عشر فصلًا يُبحِر كل منها في موضوع مختلف تثوّر المؤلفة من خلاله بعض الأسئلة في ذهن القارئ، وتبين مدى ارتباطه بالفكرة المركزية للكتاب.
لقد ناقش هذا الكتاب أفكارا هامة للغاية بالإضافة إلى فكرته المركزية في نقد العلموية Scientism وما يتصل بها، كنقد الاختزالية Reductionism، ونقد ما تسميه المؤلفة بالمادية الحصرية Exclusive materialism، وإلقاء الضوء على مشكلة العقل والجسد، ومناقشة الجذور التاريخية لتقديس العلم، والتأكيد على أصالة القيم، والانتصار للإرادة الحرة ضد مزاعم من ينفون وجودها أو تأثيرها، وكذلك التأكيد على الطبيعة الكُلَّانية التي يتميز بها الفكر الإنساني.
لكن من الضروري أن لا يفهم من إخراجنا لهذا الكتاب أنه تبني كامل لمشروع ميدجلي الفكري. فكما اشتهر عن المؤلفة نقدها الشديد لدوكينز ومعارضتها للعلموية والاختزالية، فهي أيضا معروفة بتبنيها لفكرة جايا وحقوق الحيوان مع ميلها الغريب لتقبل لأفكار الغائية الطبيعانية والتنظيم الذاتي، وميلها الطبيعي للإيمان بالتطور (الأمر الذي بالفعل أصبح طبيعيا في الوسط الثقافي الغربي المعاصر)، وهي أمور قد توسعنا في توضيح أسباب رفضنا لها في كتب أخرى. فمثلا يتناول كتاب (الحرب على الإنسان) لويزلي سميث نقدًا مطولًا لكل الأفكار البيئوية –والتي منها نظرية جايا– وكذلك لفكرة حقوق الحيوان، من حيث التسويغ الفلسفي والتتبع النقدي للتطبيق. وكذلك يتناول ستيفن ماير في جزء كبير من كتابه (شك داروين: النشوء المفاجئ لحياة الكائنات وحجة التصميم الذكي) نقد لنظريات التنظيم الذاتي. وأيضا قدم ويليام ديمبسكي في كتابه (كومينيون: ما وراء طبيعة المعلومات) نقدا لفكرة ناجل عن عزو الغائية للطبيعة، وهي فكرة تتبناها ميدجلي هنا كثيرًا. وبالطبع لا ننسى الإصدارات الأخرى التي عبرنا فيها عن وجهة نظرنا الرافضة للتطور الدارويني، والتي تحتل الجزء الأكبر من إنتاجنا في المركز.
الهدف الأهم من إخراج هذا الكتاب، أن نرى كيف تتعامل فيلسوفة مرموقة كماري ميدجلي مع تصريحات مركزية في الفكر الغربي كتصريح عالم الجينات الأشهر ومكتشف الدنا فرانسيس كريك. نرى كيف وقعت التصريحات المادية الاختزالية على مسامع بعض المنصفين، حتى لو كانوا من غير المنتمين للأديان. هذا ليس شيئا قليلا أو هينا، لك أن تتخيل أن أفكار ميدجلي في هذا الكتاب، دفعت الناشر الإنجليزي الأكثر شهرة (رولتدج Routledge) أن يصنف هذا الكتاب في سلسلة (هراطقة Heretics)، ووصفوا السلسلة بأنها تطرح مراجعات من مفكرين عظام للأفكار التي تتخذ كمسلمات في الفكر الغربي، لإصلاح أو إعادة تفسير ما قد ضل من هذه الأفكار.