لماذا هذا الكتاب؟
في منتصف القرن التاسع عشر، أخرج داروين كتابة (أصل الأنواع) متضمنا نظرية -تردد كثيرا في طرحها- تناقش تفسير المنشأ الأول للأنواع الحية بواسطة الانتخاب الطبيعي. ومن خلال تتبعنا للمجريات التاريخية التي سبقت ذلك الحدث، يمكننا التأكيد على أن أحد الأسباب الرئيسية في تردد داروين، وأكثر المنغصات التي كان يخشاها كسبب مفضي لعدم قبول فكرته، كان تبعات فكرته على تعريف أصل الإنسان.
ففي ربيع عام 1838م اختمرت أفكار داروين وازداد ثقة، فقد بات مقتنعا بأن الأنواع الحية تشعبت وانبثقت من بعضها البعض متحولة تدريجيا من البساطة إلى التعقيد. وفي دفتر ملاحظاته الذي يحمل الحرف (E)، وبعد أن ملأه بخمسة وسبعين صفحة، كان داروين يحاول مجابهة العقبة الكؤود؛ إسقاط مبدأه -الانتخاب الطبيعي- على الإنسان فكتب: "ولكن الإنسان، الإنسان الرائع، استثناءًا لذلك". لكنه لم يلبث أن حسم موقفه تماما بعدها بثلاثة أسطر فقط، فكتب: "إن الإنسان ليس استثناءًا"، ومنذ ذلك الحين، لم يتراجع.
بدت فكرة انحدار سلالة كل الأنواع –بما فيها البشر– من أسلاف مشتركة، وصياغة تطورها بفعل الانتخاب الطبيعي، مهينة إلى حد عميق. فقد أثارت حنق العلماء الفيكتوريين المعاصرين لداروين والذين منهم آدم سيدجويك (أستاذ كامبريدج الذي علم الجيولوجيا لداروين)، الذي وصف كتاب داروين بأنه "طَبَقٌ من المادية الفاسدة طُبخ ببراعة، وقدِّم للأكل". بل وحتى أكثر المتحمسين لفكرة داروين من أصدقائه العلمانيين كعالم النبات في هارفارد آسا جراي، وعالم الحشرات توماس ولاستون، وصديق داروين القديم ومستشاره تشارلز لايل. ورغم تحمسه الشديد للنظرية أبدى جورج جاكسون ميفارت -أحد طلبة توماس هكسلي- رفضه لفكرة الانتخاب الطبيعي شارحا أنه أيٍّا كان سبب وجود التحولات المادية من أحد الأنواع للآخر، فإن هذا لا يمكن أن يُفسر أبدًا عقل وروح الإنسان الموجودين في عالم لا يمكن أن تمسه النظرية التطورية. ولكن أقسى انتقاد تم توجيهه كان ما طرحه ألفريد راسِل والاس، الذي شارك داروين في أول ورقة منشورة للتعريف بالانتخاب الطبيعي ودوره فى الانتواع وفيما عدا داروين نفسه، لم يكن هناك من يفهم الانتخاب الطبيعي أفضل من والاس، ولا من يطبقه بقوة أكثر منه. بل في الحقيقة كان حماسه المفرط يفوق أحيانًا حماس داروين نفسه.
ففي عدد إبريل من مجلة (المراجعة الفصلية The Quarterly Review) لعام 1869 أكد على أن الانتخاب الطبيعي لا يمكن أن يفسر العقل البشري. وأشار على نحو مباشر لضرورة تواجد ذكاء متحكم يراقب عمل قوانين الطبيعة ويوجه عملية إنتاج العقل البشري بروعته.
كان داروين يعلم بشأن قناعات والاس الجديدة وأن مثل هذا المقال في طريقه للنشر، وبعث لوالاس قبل ذلك بشهر رسالة تحمل في طياتها رجاءًا لإثنائه عن التصريح يقول فيها: "إنني أتطلع بفضول شديد لقراءة المجلة. أرجو ألا تكون قد وأدتَ طفلك وطفلي". وحدث ما يخشاه داروين؛ فالانتخاب الطبيعي كما وضع تصوره مع صديقه والاس، لن يكون له معنى إذا كان هناك ذكاء يصوغ التغيرات ويوجهها نحو أهداف مقررة سلفا. وكتب على هامش نسخته من المجلة كلمة واحدة تعبر عن سخطه: "كلا!!".
يحكي ديفيد كوامن في كتابه (داروين مترددًا The Reluctant Mr. Darwin) أن مبدأ الانتخاب الطبيعي قد اقتلع فكرة الهدف الرباني من جذورها، وأجهز تماما على أي نزعة غائية فى العالم الحي، وقوض الاعتقاد السابق بأننا نحن البشر خلافًا لكل أشكال الحياة الأخرى نسمو روحانيٍّا ونحظى بمنزلة ربانية خاصة ونحوز جوهرًا غير مادي مخلد، وهو ما يمكننا من أن يكون لنا توقعات خاصة بالأبدية، ولذلك اصطدم داروين مباشرة مع المسيحية واليهودية والإسلام، وربما مع معظم الديانات الأخرى -حد تعبيره-.
يبدو أن قرن ونصف من الزمان لم يكونا كافيين لإنهاء هذا الجدل، فبالرغم من تبني المؤسسات العلمية الغربية للمادية، وقبولها الكامل لنظرية داروين لتفسير التنوع الحيوي، لا زالت كيفية حدوث هذا التنوع مجرد فلسفة تبحث عن أدلة في أروقة تلك المؤسسات.
في هذا الكتاب تستعرض نخبة من العلماء المختصين أكثر الاشكاليات التي تمثل تحديًا للداروينية بلغة عالمية بالغة التخصص. فيتناول دوجلاس أكس مهمة الحديث بلغة البيولوجيا الجزيئية، وكيف تحكي "قصة فشل" للانتخاب الطبيعي في صياغة الانتواع، ومن ثم ينتقل الحديث إلى رواية السجل الأحفوري لتاريخ ظهور الإنسان على لسان كيسى لسكين، حيث تنكسر الأيقونة التخيلية التي نطالعها أغلب الوقت في الدعايات الداروينية عن شبيه القرد الذي يحبو على أربع ويتحول تدريجيًا إلى شاب رشيق منتصب القد، وفي النهاية يتحول الحديث إلى دليل الوراثة السكانية الذي ينفي المزاعم الداروينية التي طالما تشدق بها أعداء الأديان حول استحالة بدأ البشرية من زوج واحد من البشر، لتثبت آن جيجر من خلال استعراض رصين للأدلة العلمية –وبنفس الأدوات الداروينية– استنتاجًا يؤكد عدم استحالة بدأ سلالة البشر بالزوج الأول "آدم وحواء".
أحمد يحيى
مدير قسم البحوث البيولوجية بمركز براهين