البكتيريا ليست مرنة بلا حدود، فلا يمكنها أن تتعرض لتلك الطفرات التي تؤثر سلبا علي وظائفها دون أن يكون لذلك التأثير انعكاس علي قدرتها علي التكاثر. نعم، في الغالب تضعف قدرة البكتيريا علي التكاثر جراء تلك الطفرات التي وقعت لها، بل لقد مرت البكتيريا أثناء تعرضها للمضادات الحيوية بضغط انتقائي قوي جدا، فلم يكن أمامها إلا أن تفني تماما أو تبقي حية مع دفع ثمن البقاء. يعرف ذلك الثمن بـ(تكلفة اللياقة Fitness cost)، وهو مفهوم حيوي جدا في مجال البيولوجيا الدقيقة والبيولوجيا التطورية، ربما هو الأمل المتبقي لنا في محاربة البكتيريا بالمضادات الحيوية .
يمكننا رصد تلك التكلفة البيولوجية في لياقة السلالات المقاومة عن طريق إرخاء الضغط الانتقائي عن البكتيريا؛ أى التخلص من المضاد الحيوي من البيئة المحيطة بالبكتيريا، في تلك الحالة نلاحظ انخفاض سرعة تكاثر السلالات المقاومة مقارنة بأسلافها غير المقاومة، وفي الصراع بين النوعين نجد أن النوع غير المقاوم ينتصر في النهاية ويطغى علي النوع المقاوم، تلك الملاحظة تفتح الباب أمام المختصين لتطوير استراتيجيات جديدة لمحاربة الأنواع التي اكتسبت المقاومة عن طريق استغلال ذلك النقص في اللياقة الحيوية .
يصر الجانب الدارويني أن تكلفة اللياقة ليست لها أهمية كبيرة، فليست كل الطفرات التي تتسبب في اكتساب البكتيريا مقاومة ضد المضادات الحيوية تتسبب أيضا في خفض لياقتها بشكل ملحوظ، ويرون أن هذا الإدعاء هو نوع من المبالغة. ويرون أن البكتيريا تستطيع عن طريق بعض الطفرات التعويضية Compensatory mutation أن تتجنب ذلك الثمن الذي تدفعه من لياقتها. ولكن على العكس من ذلك، تؤكد الأوراق العلمية علي أهميتها، وتمتلئ بالنقاشات حول طبيعة تكلفة اللياقة وطريق الاستفادة منها في المجالات العلاجية.
تتناول الكثير من الأوراق العلمية مفهوم تكلفة اللياقة علي محمل الجد، ذلك لأن الفهم الدقيق لطبيعة تلك التكلفة ضروري لمساعدة العلماء لمعرفة إذا كانت المقاومة ستستمر في الانتشار أم لا، وتؤكد علي ذلك ورقة أندرسون، حيث يقول: "قد تتنبأ التكلفة البيولوجية للمقاومة بخطر تطور المقاومة"(1)، بمعني أن التكلفة البيولوجية قد تكون مؤشر يرشدنا لاحتمالية ظهور المقاومة وانتشارها.
تؤكد علي أهمية مفهوم التكلفة البيولوجية ورقة مجموعة لينوس سانديرجين البحثية في مجلة (العلاج الكيميائي المضاد للميكروبات Antimicrobial Chemotherapy) بعنوان "آلية مقاومة النيتروفورانتوين، وتكلفة اللياقة في البكتيريا الإيشيريقة القولونية" حيث تشير الورقة إلي أن "التكلفة البيولوجية للمضادات الحيوية عامل حاسم في تحديد معدل ظهور وانتشار السلالات المقاومة". وجدت تلك الدراسة أنه بسبب اللياقة التي تفقدها البكتيريا لتصبح مقاومة للنيتروفورانتوين "حتي عند ظهور السلالات المتطفرة المقاومة في المثانة، فإنها لن تكون قادرة علي التكاثر وإحداث عدوى بسبب نموها المتضرر تحت التركيزات العلاجية من المضاد الحيوي"، وتستنتج الدراسة أن "مقاومة المضادات الحيوية تكون مصحوبة غالبا بنقص في اللياقة، مما يعني نقص في معدل النمو أو الضراوة virulence"ـ(2)
يشير أندرسون إلي أهمية فهم تكلفة اللياقة لمعرفة ما إذا كانت السلالات المقاومة ستستمر بعد إرخاء الضغط :"إن تكلفة المقاومة للياقة الحيوية عامل أساسي يؤثر علي معدل ومسار تطور المقاومة للمضادات الحيوية. اثبتت دراسات حديثة أن مقاومة المضادات الحيوية، سواء كانت نتيجة حدوث تعديل في الهدف أو آليات أخرى، غالبا ما تتسبب في نقص في اللياقة يعبر عنه كانخفاض في معدل النمو، أو الضراوة، أو الانتقال. تشير تلك النتائج إلي أن المقاومة قد يمكن عكسها إذا قل استخدام المضاد الحيوي. بالرغم من ذلك، العديد من العمليات تعمل لكي تثبت المقاومة، مثل التطور التعويضي عندما يتم التخلص من التكلفة عن طريق طفرات إضافية مع الحفاظ علي المقاومة، والطفرات النادرة التي لا تؤثر علي اللياقة، والارتباط الجيني بين واسمات المقاومة و واسمات منتقاه أخرى. يمكننا إذن أن نستغل تلك المعرفة في اختيار وتصميم أهداف وأدوية تكون فيها التكلفة أعلى ما يمكن واحتمال التعويض أقل ما يمكن".(1)
علي عكس ما تتنبأ به نظرية التطور، تنحدر البكتيريا إلي أشكال أقل تعقيدا بدلا من الارتقاء إلي أشكال أكثر تعقيدا تملك معلومات ووظائف أكثر، كما أن المقاومة التي تكتسبها بتلك الطريقة لا تستطيع الاحتفاظ بها إذا أرخي عنها الضغط الذي كاد يقضي عليها، مما يعني أنها ظاهرة عابرة، ولا تمت للتطور الدارويني بصلة.
(1) Dan I Andersson, “The biological cost of mutational antibiotic resistance: any practical conclusions?,” Current Opinion in Microbiology, Vol. 9:461–465 (2006).
(2) Linus Sandegren, Anton Lindqvist, Gunnar Kahlmeter, and Dan I. Andersson, “Nitrofurantoin resistance mechanism and fitness cost in Escherichia coli,” Journal of Antimicrobial Chemotherapy, Vol. 62, 495–503 (2008).